الخميس، 24 أكتوبر 2013

مكتبة المفكر الاسلامي مالك بن نبي


عنوان الكتاب: الظاهرة القرآنية

http://archive.org/download/WAQ107172/107172.pdf


عنوان الكتاب: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة

http://www.archive.org/download/waq105775/105775.pdf


عنوان الكتاب: مشكلة الثقافة

http://archive.org/download/WAQ105448/105448.pdf


عنوان الكتاب: بين الرشاد والتيه

http://archive.org/download/baynarrshadwatteh/baynarrshadwatteh.pdf


عنوان الكتاب: تأملات

http://archive.org/download/taamolattaamolat/taamolat.pdf


عنوان الكتاب: شروط النهضة


http://archive.org/download/WAQ105491/105491.pdf


عنوان الكتاب: ميلاد مجتمع - الجزء الأول: شبكة العلاقات الإجتماعية


http://www.archive.org/download/waq105496/105496.pdf


عنوان الكتاب: القضايا الكبرى


http://archive.org/download/WAQ107145/107145.pdf


عنوان الكتاب: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث


http://www.archive.org/download/imafihimafih/imafih.pdf


عنوان الكتاب: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي


http://archive.org/download/WAQ47703/47703.pdf


عنوان الكتاب: فكرة كومونولث إسلامي


http://www.archive.org/download/fikoisfikois/fikois.pdf


عنوان الكتاب: في مهب المعركة


http://archive.org/download/WAQ107187/107187.pdf


عنوان الكتاب: المسلم في عالم الإقتصاد


http://archive.org/download/WAQ30409/30409.pdf


عنوان الكتاب: فكرة الإفريقية الآسيوية


http://archive.org/download/WAQ106983/106983.pdf


عنوان الكتاب: وجهة العالم الإسلامي

http://shamela.ws/books/378/37827.rar


عنوان الكتاب: مذكرات شاهد للقرن

http://www.archive.org/download/mzshqr/mzshqr.pdf

مكتبة مالك بن نبي


كتاب : شروط النهضة..(مالك بن نبي) .........................
تلخيص كتاب شروط النهضة لمالك بن نبي.......................
كتاب : الظاهرة القرآنية..(مالك بن نبي)............................
كتاب : مشكلات الحضارة: المسلم في عالم الاقتصاد..(مالك بن نبي)
كتاب : مشكلات الحضارة في مهب المعركة..(مالك بن نبي).........
كتاب : مشكلات الحضارة: القضايا الكبرى..(مالك بن نبي)...........
كتاب : مشكلات الحضارة: وجهة العالم الاسلامي..(مالك بن نبي)...
كتاب : مشكلات الحضارة: تأملات..(مالك بن نبي) ..................
كتاب : مشكلات الحضارة: مشكلة الثقافة..(مالك بن نبي) ...........
كتاب : مشكلات الحضارة: بين الرشاد والتيه..(مالك بن نبي)..........
كتاب : مشكلات الحضارة: فكرة الإفريقية الآسيوية ..(مالك بن نبي)
كتاب : مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي..(مالك بن نبي) ........
كتاب : مشكلات الحضارة: ميلاد مجتمع ..(مالك بن نبي) .........
كتاب : مشكلات الحضارة: ميلاد مجتمع لمالك بن نبي ..(قراءة وتلخيص للكتاب)

 

السبت، 12 أكتوبر 2013

ملخص عن كتب مالك بن نبي












د. خالد النجار




بسم الله الرحمن الرحيم

يعدّ «مالك بن نبي» واحدًا من أعلام الفكر الإسلامي الذين حجب فكرهم عن الناس لعدم اهتمام الدارسين بهم .. إنه المفكر العملاق الذي نذر حياته في خدمة القضايا الإنسانية العادلة ابتداء من القضية الجزائرية إلى القضايا القومية والإسلامية وانتهاء بمعضلات العالم الثالث, فلقد أمضى أكثر من ثلاثين عاماً متأملاً يحلّل ويضع شروط النهضة للمجتمع الإسلامي. ورغم التعتيم والتهميش الذي مورس ضده حيا وميتا، إلا أن فكره بقي حيا يُقرأ وأفكاره ما زالت تنبض بالحيوية والفعالية، تتداولها أجيال ما بعد الاستقلال في الجزائر وفي العالم الإسلامي برمته.
ولد «مالك بن نبي» عام (1905م) في قسنطينة بشرق الجزائر في أسرة فقيرة، بين مجتمع جزائري محافظ. في تلك الفترة التي شهدت أحداثاً كبيرة في تاريخ الجزائر وتاريخ الدول العربية، فقد سقطت الخلافة العثمانية واحتلت فرنسا الجزائر وبسطت هيمنتها على تونس والمغرب وكانت معظم الدول العربية تحت الاستعمار وما ترتب على ذلك من ردود الأفعال سواء في شكل حركات جهادية للتحرر أو دعوات إصلاحية.
وكانت مراحل دراسته الابتدائية والثانوية بين مدينتي (تِبِسّة) و (قسنطينة)، فتتلمذ في المدرسة نفسها على أساتذة وطنيين، في العربية، زرعوا في نفسه بذرة العمل الوطني، كما درس على أساتذة فرنسيين عنصريين، أشعروه بالخطر الاستعماري الفرنسي لمسخ الشخصية الإسلامية العربية في الجزائر، وتشويه تاريخ الوطن.
حفظ القرآن في الكتّاب في المرحلة الابتدائية وواصل تعليمه إلى المرحلة الثانوية حيث اشتد شغفه بالاطلاع والثقافة .. وإلى جانب تعلمه في المرحلة الثانوية كان يتلقى دروساً في اللغة العربية على يد «الشيخ عبد المجيد» الذي أثر في تكوينه الفكري وغرس فيه حاسة النقد الاجتماعي، كما تأثر أيضاً - كما يذكر في مؤلفاته- في المدرسة الثانوية بالسيد «مارتن» الذي أسهم في إثراء حصيلة تلامذته ومنهم «مالك بن نبي» بالمفردات اللغوية وغرس فيهم ملكة التعبير وتذوقه وحبب إليهم المطالعة.
وفي هذه المرحلة أيضاً بدأت تتبلور أفكاره وتتحدد رؤيته السياسية والاجتماعية فقد تأثر بالمناخ الثقافي الذي كان يسود منطقة الشرق الجزائري في القسنطينة حيث شاعت فيها روح الإصلاح والثقافة العربية والاتصال بالمشرق العربي، وحيث كان الشيخ «عبد الحميد بن باديس» يقوم بمهمته الإصلاحية بالإضافة إلى ما اكتسبه من قراءته للصحف بمختلف اتجاهاتها (الشهاب) و(الإقدام) و(الإنسانية).
سافر عام (1925م) إلى مرسيليا وليون وباريس بحثاً عن عمل ولكن دون جدوى، فعاد إلى الجزائر حيث عمل في تِبسَّة مساعد كاتب في المحكمة. وأتاح له عمله هذا الاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع أيام الاستعمار مما ساعده على تفسير ظواهر مختلفة فيما بعد .
وفي عام (1928م) تعرّف مالك بن نبي على الشيخ «عبد الحميد بن باديس» (1887- 1940م)، وعرف قيمته الإصلاحية.
وفي عام (1350هـ -1930م) وكانت فرنسا تحتفل بعيدها المئوي لاحتلال الجزائر اضطر مالك بن نبي للسفر إلى فرنسا مرة أخرى وحاول الالتحاق «بمعهد الدراسات الشرقية»، أملاً في التخرج محامياً، فهيأ نفسه لامتحان الدخول، وانتظره هنالك واستعدّ له. ثم اجتازه وكله ثقة في النجاح، لكن النتيجة كانت خيبة الأمل المقررة مسبقاً، فقال عنها: «لقد طلبني مدير المعهد، وفي هدوء مكتبه الوقور شرع يشعرني بعدم الجدوى في الإصرار على الدخول لمعهده، فكان الموقف يجلي لنظري بكل وضوح هذه الحقيقة: إن الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لا يخضع بالنسبة لمسلم جزائري لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي، ونزلت كلمات المدير على طموحي نزول سكين المقصلة على عنق المعدوم .. وفي ذلك اليوم لم يتحطم فقط أملي، بل شعرت أن حلم والدتي ووالدي قد تحطم أيضاً على صخرة الإرادة المقررة في خبايا الدوائر الاستعمارية في فرنسا مثلما في الجزائر»
وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه نتيجة امتحان الدخول لهذا المعهد، زار متحفاً للفنون والصناعات كان سبباً في تفكيره لأول مرة في مشكلة الحضارة عندما شاهد عينات التقنية من القاطرة البخارية الأولى والطائرة، وكما كان للوقائع المفاجئة أثرها في تأكيد مسار مالك الفكري، فإنها أيضاً قادته وهو طالب يتلقى مساعدة مالية من والده تعينه على الدراسة في باريس إلى أن يبحث عن مطعم يقدم وجبات غذائية بسعر مناسب يتفق ومقدرته المالية، وكان ذلك سبباً في انتسابه «للوحدة المسيحية للشباب الباريسيين» الذي أتاح له التعرف من قرب على الجانب الروحي للحضارة الغربية، كما أسهمت هذه الوحدة في تعرف مالك على الحياة الأوروبية بشكل تفصيلي عن طريق صديقه الأوروبي الذي كان يأخذه معه إلى منزله ويكتشف «مالك» من خلال تلك الزيارات واقع الحياة الأسرية العائلية الأوروبية.
ولما لم يتمكن من الالتحاق «بمعهد الدراسات الشرقية» اضطّر لتعديل أهدافه وغاياته، والتحق بمدرسة «اللاسلكي» غير البعيدة عن «معهد اللغات الشرقية» للتخرج كمساعد مهندس، ممّا يجعل موضوعه تقنياً خالصاً، بطابعه العلمي الصرف، على العكس من المجال القضائي والسياسي ..‏ لكن تشاء الأقدار أن يدخل «مالك بن نبي» من هذا الباب نفسه إلى عالم الفكر السياسي.
فهناك في مدرسة «اللاسلكي» كان مطلوباً منه أن يكون مُلماً بالرياضيات ليتمكن من الالتحاق بهذه المدرسة ودخل مالك عالم الرياضيات الذي أحدث له تغييراً عميقاً في النظر وفي التفكير لديه فكانت فترة دراسته للرياضيات نقطة تغيير جذري في اتجاهه الفكري - كما يقول ذلك في مذكراته - ودخل من خلالها إلى مناخ الكم والكيف حيث يخضع كل شيء إلى المقياس الدقيق ويتسم فيه الفرد أول ما يتسم بميزات الضبط والملاحظة..
ورغم جده واجتهاده إلا أنه لم يتمكن من اجراء الامتحان التطبيقي الضروري لتخرجه مهندساً بعد أن أنهى دراسته في الكهرباء والميكانيكا بسبب اعتذار المؤسسات والمصانع التي يمكن التطبيق فيها لنشاطه في مقاومة الاستعمار.
وفي عام (1351هـ - 1931م) تزوج مالك اثناء دراسته في فرنسا من شابة فرنسية أسلمت وسمت نفسها (خديجة) حيث هيأت له أسباب الراحة وساعدته على مواصلة دراسته ومواصلة تكوينه الفكري وقد أفرد لها صفحات مهمة في مذكراته لدورها القوي في حياته وكيف كانت جانباً مضيئاً له في غربته في فرنسا .. كما أنه في تلك الفترة التقى بصديقه «حمودة بن الساعي» الذي كان للقائه به تأثير كبير عليه.
بقي مالك في باريس من عام (1939م-1956م)، ثم ذهب إلى القاهرة للمشاركة في الثورة الجزائرية من هناك.
وفي مصر كانت مرحلة أخرى له مع التأليف وإتقان اللغة العربية وعقد الحلقات العلمية المفتوحة لجميع الطلبة في منزله بالقاهرة، حيث تتم مناقشة مؤلفاته وشرح أفكاره حيث تأثر بها عدد كبير من الطلبة العرب والمسلمين الذين كانوا يتلقون تعليمهم في القاهرة، إذ أن المناقشات والتحليلات الدقيقة لمشكلات العالم الإسلامي كانت توقظ أذهان العديد من الطلبة وتوضح لهم الحقائق وكانت معظم الموضوعات التي تناقش حول مشكلات الحضارة.
وتعتبر فترة وجود مالك بن نبي في مصر من أغنى مراحل عطائه الفكري الذي ألف فيها العديد من الكتب بالإضافة إلى ترجمة البعض الآخر من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية.
كما أن محاضراته ومناقشاته مع العديد من المفكرين والمثقفين المصريين والعرب ساعدت على ظهوره في الحياة الفكرية ليس فقط في مصر بل في العالم العربي وأثناء إقامته في مصر قام بزيارة سوريا ولبنان وألقى فيهما عدداً من المحاضرات وفي جولة أخرى زار المملكة العربية السعودية والكويت وليبيا.. وبقي في مصر يحاضر ويناقش ويؤلف إلى عام (1383هـ - 1963م) حيث عاد إلى الجزائر وقد تم تعيينه مديراً عاماً للتعليم العالي..
وكان مالك قد تزوج أثناء إقامته في القاهرة بسيدة جزائرية.. أنجبت له ثلاث بنات هن: نعمة وإيمان ورحمة.
ثم انتقل إلى الجزائر عام (1963م) – بعد الاستقلال – حيث عيّن مديراً للتعليم العالي، ولكنه استقال من منصبه عام (1967م) وانقطع للعمل الفكري وتنظيم ندوات فكرية كان يحضرها الطلبة من مختلف المشارب، وكانت النواة لملتقى الفكر الإسلامي الذي يُعقد كل عام في الجزائر. وظل مالك بن نبي يُنير الطريق أمام العالم الإسلامي بفكره إلى أن توفى في 31 أكتوبر عام (1973م).
مؤثرات البناء الفكري
إن البناء الفكري لأي مفكر أو عالم لا يبدأ من فراغ فلا بد من المؤثرات الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو بعض الأعمال الفكرية التي تسهم في نمو هذا التفكير.
ولقد أوضح المفكر المسلم مالك بن نبي في العديد من مؤلفاته وفي مذكراته التي أطلق عليها عنوان «مذكرات شاهد للقرن» أن هناك مواقف صادفته في طفولته وشبابه سواء في المنزل أو الشارع أو المدرسة كان لها تأثير عميق في حياته وبعض هذه المواقف دفعته إلى تغيير تخصصاته الدراسية وبالتالي تغيير خطط حياته كما أن هناك العديد من الأعمال الفكرية التي تركت بصماتها في فكره فقد كان - رحمه الله - غزير القراءة يقرأ في كل مجال وقد بدأ في القراءة منذ أن كان صغيراً بالمدرسة الابتدائية، أما في المرحلة الثانوية فقد بدأت الصياغات الأولى لفكرة تأخذ اتجاهين:
«الأول»: الارتباط بالإسلام وتراثه.
 «الثاني» الانفتاح على الحضارة الغربية وعلومها.
 وقد قرأ مؤلفات الشيخ أحمد رضا والشيخ محمد عبده والشيخ عبد الرحمن الكواكبي واطلع في الفترة التي قضاها في قسنطينة -وتعد من أبرز الفترات في حياته وتفكيره ليس بتأثير أساتذته فقط بل بإطلاعه- على مختلف المؤلفات الأدبية والتاريخية والفلسفية والاجتماعية مما أثر في عمق تفكيره وشمولية معرفته.
 فقد اطلع على ألوان من الأدب العربي القديم كشعر امرئ القيس والشنفري وعنترة والفرزدق وأيضاً في الشعر الحديث لحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي.
ويعتبر التراث العربي الإسلامي ومنابعه الأولى وخاصة «القرآن الكريم» الباعث الروحي الذي يمثل الأساس الأول في تكوين مالك وقد وضع في القرآن أول مؤلف له وهو «الظاهرة القرآنية» ومن المؤلفات التي أثرت في مالك «مقدمة ابن خلدون» حيث استمد منها نظريته في الدورة الحضارية وعن التغيير الاجتماعي من دورة الدولة عند ابن خلدون وان اختلف عنه في أنه لم يقف عند أحد نتاجات الحضارة وهي (الدولة) بل استقرأ الواقع الاجتماعي الإسلامي التاريخي والمعاصر ومحاولاته للوصول إلى الحضارة وبين كيفية العودة بالمجتمعات إلى مرحلة الحضارة وإمكان ذلك بإدراك شمولها ومراحل تطورها بصفتها واقعة اجتماعية.
أيضاً قرأ مالك مؤلف «ازوالد اشبنجلر» (تدهور الحضارة الغربية) ومؤلف «ارنولد توينبي» (دراسات التاريخ) وتأثر بهما واخضع هاتين الدراستين للعديد من التحليلات الصحفية في مؤلفه (شروط النهضة).
واطلع على كتابات المستشرقين عن الإسلام مثل كتاب «أوجين يونج» (الإسلام بين الحوت والدب)، وكتاب «ايزابيل هارت» (تحت ظلال الإسلام الدافئة) كما تأثر مالك بعدد آخر من الفلاسفة والمفكرين الغربيين مثل «نيتشه» وكان قد قرأ كتابه (هكذا تكلم زرادشت) وقد شغله فكرياً كما يقول - يرحمه الله - وقرأ لـ «كانت» وتأثر به وظهر ذلك واضحاً من خلال فكرة مالك عن (الواجب والحق) التي احتلت مكاناً بارزاً في كتاباته.
وعلى الرغم من القيادات الفكرية والأيديولوجية التي كانت سائدة في قسنطينة أثناء دراسة مالك فيها إلا أن مالك كان أقرب إلى التيار الإصلاحي وأثناء وجوده في باريس كان الحي اللاتيني يموج بالعديد من التيارات الفكرية والمذاهب إلا أن مالك كان يدعو إلى الإسلام .. والقارئ لفكر مالك يلمس عمق إيمانه وقوة عقيدته واستقامة منهجه السلوكي والفكري.
إن ما يميز مالك كمفكر أنه يدين بالفضل في تكوينه النفسي والفكري إلى عدد كبير من الأشخاص وليس فقط العلماء والمفكرين والأدباء والأساتذة أمثال «حمودة بن الساعي» والشيخ محمود شاكر في القاهرة، حيث أفاده في مجال اتقان اللغة العربية والاطلاع على مصادر التراث الإسلامي وتعريف مالك بالعديد من العلماء والأدباء ورجال الفكر في مصر.
أما «حمودة بن الساعي» فقد كان تأثيره عميقاً في بناء مالك النفسي والفكري منذ أن تعرف عليه في باريس أثناء دراسة حمودة بن الساعي للدكتوراه حول الإمام الغزالي في جامعة السوربون فأخذ مالك معه إلى عالمه الفكري بحكم تخصصه في العلوم الإسلامية واهتمامه شخصياً بالإصلاح...وكان مالك يطلق عليه صفة (معلمي) تقديراً له ولدوره في تكوينه الفكري وتشجيعه له لكتابة أول مقالة له بعنوان «خطاب مفتوح للضمير العالمي» وعلى إلقاء محاضرته «لماذا نحن مسلمون؟» وكان يحضر معه المحاضرات المفتوحة في جامعة السوربون التي يقدمها كبار الأستاذة في مختلف الموضوعات.
ومن الشخصيات التي كان لها دور تربوي عظيم في نفسه وسلوكه (جدته لأمه) وهي امرأة صالحة أخذت بيده طفلاً في عالم الخير والقيم المعنوية الإسلامية بما يتناسب وإدراكه وبما يتفق والتربية الصالحة ولقد أدت دور المربي الأول الذي صاغ رؤياه الأولية نحو القيم الأخلاقية وأيضاً من حكاياتها عند الاستعمار كانت البذور الأولى لمأساة الاستعمار والاحتلال الأجنبي تجد طريقها في عقل ذلك الطفل وأيضاً والدته كان لها تأثير عميق في نفسه وقد حزن حزناً شديداً عليها عند وفاتها.
أيضاً في دائرة تأثير المرأة في حياته من جدته ووالدته نجد أن دور زوجته الفرنسية المسلمة «خديجة» كان واضحاً فكما يقول عنها إنها أخذت بيده إلى عمق الحضارة الأوروبية معايشة وواقعاً وفكراً وذوقاً وجمالاً.. وفي مثل هذا المناخ الاجتماعي داخل المنزل وخارجه كان مالك يكتسب تطوراً نفسياً جعله ينفر من الأشياء التي تخالف الذوق الجمالي وهو يفسر هذا بقوله:
(إن الاستعدادات التي تدفعني إلى هذا الموقف كانت أصيلة في نفسي وإنما وجودي في فرنسا ومعايشتي لزوجتي طورت هذه الاستعدادات الوراثية إلى أفكار اجتماعية خاصة).
 ويقول في موقع آخر من مؤلفاته يوضح عمق تأثير زوجته في شخصيته: (مضت زوجتي تتفنن من أجل توفير جميع وسائل الراحة لي داخل البيت حتى من الناحية الفكرية، إذ كانت تأتي على الأشياء التي أشاهدها في عالمنا الجديد بشهادة من يعرفها من داخلها، لقد كنت أرى في تلك الأشياء القيم الحضارية التي أصبحت الشغل الشاغل بالنسبة لي من الناحية النظرية ولكن زوجتي ألبستها لباسها وصيرتها ملموسة أمامي، لقد أصبحت في الحقيقة أعيش في الورشة المختصة بالجانب التطبيقي لملاحظاتي عن البيئة الجديدة، وبصياغة توقعي واستطلاعي الشخصي تجاهها، سواء من حيث الفكر والسلوك أو من حيث ما أزكي من فضائلها وما أرفض من رذائلها).
هذه الشهادة من مالك بن نبي لدور جدته ووالدته وزوجته مهمة لإبراز كم للنساء من آثار عميقة في بناء الأسرة والأبناء.. أيضاً ما يتعلق بزوجته «خديجة» وخصوصاً لمن يتعمق في معظم ما كتب عنها نجد أن استقراء مالك للحضارة الغربية لم تكن انبهاراً واستحواذاً كما يحدث للبعض!! ولكنه معايش وواقع عملي مكنه من التعمق في الثقافة الأوروبية وسبب لتحرره من نفوذها ومعرفته لمصادرها ومواردها ودوافعها الخفية وبواعثها العميقة، كما أنه يتميز عن كثير من المفكرين الذين عادوا من أوروبا في تلك الفترة؛ فلم ينحرف مع التيار الجارف الذي كان سائداً ولم يحدث عنده تحول نوعي في أفكاره وآرائه كما حصل للبعض في مرحلته.. وكما يحدث للبعض في واقعنا المعاصر الآن!!
السمات الفكرية لابن نبي
تميزت كتب الأستاذ مالك في عمومها - موضوعاتها ومصطلحاتها ومفرداتها - ببصمات خاصة، فجاءت كتبه تحمل عناوين جديدة ومضامين جديدة لم يعرفها الفكر العربي والإسلامي الحديث بالدقة التي تمت بها معالجته لموضوعات تلك الكتب، ومن أهم معالم التجديد في فكر مالك بن نبي، أنه تجاوز الأساليب التقليدية لدى الباحثين الإسلاميين، وهي الأساليب التي تبحث في العقائد والعبادات والمعاملات والأدب والتاريخ والسياسة، وتحاول أن تنقى الفكر الإسلامي من بعض الأخطاء والتفسيرات التي سادت في عصور الانحطاط...تلك المحاولات كانت تعالج قضايا تحيط بالإنسان المسلم، والمجتمعات الإسلامية، أي أنها تتعامل مع العالم الخارجي أكثر من تعاملها مع عناصر التغيير الداخلية، تغيير الأفكار والنفوس طبقا لقوانين التغيير الاجتماعي.
لكن «مالك بن نبي» الذي أتقن اللغة الفرنسية، وتثقف بها، وعاش بضميره الإسلامي، والذي كان يعانى من وطأة الاستعمار الأوروبي لبلاده الجزائر، كان يفكر برؤية أكثر عمقا وشمولا وتحديدا، وعنده أن الإصلاح والنهوض الفعلي يبدأ من تغيير الإنسان المسلم، والتغيير الأهم ينطلق من الفكر، وعنده أن (الحضارة ما هي إلا نتاج فكرة جوهرية) تدفع بالمجتمع نحو دوره التاريخي الحضاري. وهو الذي شد انتباه قرائه إلى البعد النفسي والاجتماعي لقانون التغيير كما جاء في الآية القرآنية: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
إن كثيرين يستشهدون بهذه الآية في كتاباتهم وفى خطبهم، غير أن «مالك بن نبي» يظل صاحب التجليات الفكرية الأكثر عمقا ووضوحا، فيضع تلك الآية كأحد قوانين التغيير الاجتماعي وكأحد شروط النهضة، ولا ينسى أن ينبهنا ألا نتعامل مع نص هذه الآية حسب إيماننا بها فقط، بل يجب أن يتم ذلك في ضوء التاريخ، وفهم حركة التاريخ وما يجسده من خصائص اجتماعية ودينية واقتصاديه وغير ذلك من مكونات المركب الحضاري الذي تبلغه الأمم بعد مسيرة طويلة أهم عناصرها: الإنسان وأفكاره المبدعة وقدرته على استثمار الوقت استثمارا ايجابيا.
ومالك بن نبي صاحب مفهوم «القابلية للاستعمار» الذي اشتهر شهرة بالغة ويعني: مجموعة الصفات البنيوية التي تسهل على الاستعمار مهمته الاستيلائية. وهو مفهوم شديد الجاذبية حيث يبدو كأنه يلخص نصف مشكلة الاستعمار، فهو يطلب منا إلقاء الضوء على العيوب الداخلية في بني المجتمعات التي وقعت ضحية الاستعمار، بعد أن كان التركيز المعتاد لحركات التحرر ينصب أساساً على الدور الذي قامت به القوى الاستعمارية في تأبيد التخلف أو حتى صناعته بعد إذ لم يكن موجوداً.
ولكن ابن نبي في جميع الأحوال كان رجلاً غيوراً على المسلمين وما كان يبتغي من هذا المفهوم إلا حث إخوانه في الدين على نفض غبار التقاعس والكسل العقلي والجسدي والنهوض لبناء حضارة الإسلام من جديد، حضارة قوية لا يستطيع الاستعمار اختراقها.
ولم يقعد مالك بن نبي معقدا سلبيا أمام الحضارة الغربية فلم يشعر بالنقص والدونية أو التفوق تجاه الغرب، بل اهتم بقضية إحياء الحضارة العربية الإسلامية ويقظة العالم الإسلامي ــ الذي هو خارج التاريخ ــ فدرس قضية النهضة باحثا أسباب التخلف والانحطاط المنتشرين فيه، ومتأملا ما اقترحه التيار الإصلاحي، والتيار الحداثي، فالأول طرح قضية إصلاح العقيدة، والثاني ركز على استيراد كل ما هو غربي. لكن يختلف مالك بن نبي عن الإصلاحيين في تقويمه لتخلف المسلمين، إذ يرى أنهم لم يفقدوا إيمانهم بل فقدوا مهمته الاجتماعية، بينما الحداثيين ربطوا التقدم باستيراد الأشياء وحصروا التخلف في العقيدة الإسلامية.
أما غالبية أفراد العالم الإسلامي فلم يكن مشروعهم واضح وله أهداف واضحة ومحددة للنهضة ليجابهوا تلك المشاكل الحضارية بحلول جدية. فشاع عند المسلمين التواكل، وأن مجتمعاتهم مكتملة لما بلغته من روحانيات، بينما عند ابن نبي البناء الثقافي يجب أن يؤسس على المبادئ الأخلاقية، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والتقنية .. فبهذا أراد بحث العناصر الأساسية للشروط النفسية والثقافية لتجنيد المجتمع. فمفكرنا ينظر إلى انحطاط المسلمين من الطريقة التي طبق بها الإسلام وليس نتيجة لهذا الدين في حد ذاته.
ولعل ما مّيز فكر مالك بن نبي وإنتاجه الأدبي تكوّنه المزدوج بين الثقافتين الغربية والعربية الإسلامية نتيجة لما كان يسود الجزائر من صراع بين الثقافتين التي كانت تجسد التصادم بين الانتماء الحضاري من جهة والرغبة في التطور من جهة أخرى.
وقد ترك ذلك أثرا بالغا في نفسه وفي كتاباته التي تتميز بالتزاوج بين المصدرين. فبجانب الاستدلال من التراث والتاريخ الإسلاميين مثل حادثة عمر بن الخطاب مع المرأة التي جادلته في الصداق، وحادثة صفين بين علي ومعاوية، نجد الحديث عن مفكرين معاصرين في أوربا والعالم مثل البريطاني «تونبي» والألمانيان «كيسرلنج» و «شاخت» وأعمال الهندي «ماهاتما غاندي« وغيرهم.
وبجانب الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي كان يستدل بها في نصوصه والتي تلقاها في الزوايا والمدارس الأهلية، نجد المعادلات الرياضية والتفسيرات الفيزيائية والكيميائية للظواهر الاجتماعية التي تنم عن فكر رياضي وتقني دقيق وحاد.
وقد كان في هذا الجانب لرصيده التعليمي في مجال الهندسة الكهربائية بدون شك أثر في استعارته تلك الوسائل الرياضية والمعايير الحديثة من بيانات إحصائية ودوال ومعادلات غيرها.
ويمكن اعتبار الإطار العام لفكر مالك بن نبي «مسألة الحضارة»...فقد عنون جميع مؤلفاته تحت شعار كبير هو «مشكلات الحضارة». وتكاد محاوره الفكرية تكون واضحة من خلال العناوين الفرعية التي اختارها لكتبه التي تزيد عن العشرين كتابا.
ففي فترة ما يقرب من عشرين سنة من التأليف (1946-1967م) أخرج إلى النور: «شروط النهضة» «وجهة العالم الإسلامي» «مشكلة الثقافة» «الصراع الفكري في البلدان المستعمَرة» «البناء الاجتماعي الجديد» «ميلاد مجتمع» «تأملات في البناء الجديد» «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» «الظاهرة القرآنية» «المسلم في عالم الاقتصاد» «الفكرة الإفريقية الآسيوية» وغيرها من الكتب.
ولذلك فيمكن توزيع أعماله على عدة مجالات علمية أهمها فلسفة التاريخ والسياسة الثقافية والاقتصاد وعلم النفس الاجتماعي والفكر الإسلامي. وكما توزعت أعمال على مختلف المجالات كذلك توزعت جغرافيا في عدة عواصم ابتداء من الجزائر وباريس ثم القاهرة ودمشق وبيروت.
قراءة ناقد في فكر مالك بن نبي
من أجمع ما كُتب في هذا الموضوع بحث للأستاذ «محمد العبدة » بعنوان «قراءة في فكر مالك بن نبي» نشرته مجلة البيان [1]  ننقله بنصه، حيث يقول -بارك الله فيه-:
إذا عُدَّ المفكرون من المسلمين في هذا العصر فإن «مالك بن نبي» هو من هذه القلة الذين ينطبق عليهم هذا الوصف؛ فالمفكر هو الذي يدرس ويتأمل ويقارن، ويحلل المشكلة إلى أجزائها، ثم ينسق ويركب ويجتهد في إيجاد الحلول.
وقد ترددت كثيراً قبل الكتابة عن مالك بن نبي؛ لا لأنه عميق الغور، غوَّاص في البحث والتنقيب، أو لأن تتبع آرائه وأفكاره يحتاج إلى جهد، بل لأنه يطرح أفكاراً وآراءً لا تتناسب مع عمق تفكيره، يقف الإنسان أمامها حائراً: من
أين جاءته؛ وما هي الخلفية الثقافية التي جعلته يتبنى هذا الرأي أو ذاك؛ وهل هو
مؤيد أم معارض؟ وقد كان ذلك التردد وإعادة القراءة مرات ومرات حتى لا نظلمه، وليستبين الحق وتتضح الصورة، وتحل الإشكالات .
إن الكتابة عن مالك بن نبي ضرورية للأجيال التي يجب عليها أن تتعرف على ما كتبه أصحاب الخبرة والتجربة في مجال الصراع الفكري المحتدم بين أوربا المستعمرة والعالم الإسلامي منذ نهاية القرن الثامن عشر، فلم يعد من المجدي طرح الحلول العامة والعائمة ولابد من الدخول في التفاصيل، ومعرفة أسباب الفشل وأسباب النهضة، ولكن العجب لا ينقضي عندما ندرك أننا في كثير من الأحيان لا نستفيد مما كتبه السابقون لنا الذين تصدوا للإصلاح في أوائل هذا القرن .
يقول الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر - في تقديمه لكتاب «في مهب المعركة» مصوراً هذه الظاهرة: «فإذا نحن نرى أنفسنا في ضوء ما كَتب قديماً، كأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا ولا يزال ينزل، وأشد النكبات التي يصاب بها البشر نكبة الغفلة ...» [2].
      ولمالك مشكلة خاصة في انصراف بعض الشباب المسلم عن قراءة إنتاجه الفكري، وهي إحدى الأسباب وليست السبب الوحيد على كل حال ؛ فقد كتب سيد قطب رحمه الله:
      ( لقد كنت أعلنت مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان «نحو مجتمع إسلامي متحضر» ثم عدت في الإعلان التالي عنه فحذفت كلمة «متحضر»، ولفت هذا التعديل نظر كاتب جزائري (يكتب بالفرنسية) ففسره على أنه ناشئ عن (عملية
دفاع نفسيه داخلية عن الإسلام) وأسف لأن هذه العملية - غير الواعية – تحرمني مواجهة المشكلة على حقيقتها .
      أنا أعذر هذا الكاتب ... لقد كنت مثله من قبل ... كانت المشكلة عندي -كما
عنده اليوم- هي مشكلة (تعريف الحضارة) .. ثم انجلت الصورة (المجتمع المسلم) هو (المجتمع المتحضر)[3]
      وفهم الشباب المسلم أن هذا الكاتب الجزائري واقع تحت ضغط آتٍ من مصادر أجنبية، فكان ذلك سبباً لابتعادهم عن قراءة فكر مالك، ولكن القضية هي قضية مصطلحات ؛ فمالك يتكلم عن المجتمع الإسلامي الموجود وأنه يحتاج إلى رفعه إلى مستوى الحضارة حتى يستأنف دوره - وطبعا لا يعني هنا الحضارة الغربية وإنما الحضارة بتعريفه هو - وسيد يتكلم عن المجتمع الإسلامي المنشود وأنه إذا وُجد فثَم الحضارة، والإسلام هو الوحيد الذي ينتج حضارة متكاملة، ولاشك أن سيداً - رحمه الله - أنقى وأوضح تصوراً وفكراً، وهو ينظر إلى الحضارة الغربية من علٍ ؛ لأنه المسلم المتميز بعقيدته وتصوراته، ولكن مالكاً هنا يبحث في التفاصيل والجزئيات، وكيف يركبها لينتقل بالمسلم من حالة التخلف والركود إلى حالة (الإقلاع) للدخول في دورة الحضارة مرة ثانية، وسيد يرى استيراد النظريات العلمية (مجردة) ومالك يقول: هذه الأشياء المستوردة هي نتاج حضارة وثقافة، هذه الأشياء صنعها علم النفس وعلم الاجتماع أيضاً، ولذلك سواء استوردناها أو صنعناها لابد أن تكون هناك ثقافة تحيط بها حتى تضعها في مكانها المناسب، وحتى لا تتحول إلى (تكديس) وهذه الثقافة هي الثقافة الإسلامية .
      إن ظاهرة انصراف بعض الناس عن فكر معين - بسبب كلمة تقال من عالم مشهور - ليست جديدة ولا غريبة، فعندما ترجم أحد العلماء للمؤرخ ابن خلدون؛ تكلم فيه وانتقد عليه بعض التصرفات الشخصية عنده، فكان ذلك من أسباب إعراض الناس عن (المقدمة) التي تعتبر أعظم ما أنتجه المسلمون في علم الاجتماع وفن النقد التاريخي، ولمالك إيجابيات كثيرة سنتكلم عنها إن شاء الله، وله أخطاء، ولابد من عرض كليهما حتى يتبين وجه الصواب لمن أراده، وهو واضح جلي والحمد لله.
نبذة عن حياته:
وُلد مالك بن نبي في مدينة قسنطينة في الجزائر عام (1905م)، ونشأ في أسرة فقيرة ؛ لأن جده لأبيه هاجر إلى طرابُلس الغرب احتجاجاً على الاستعمار الفرنسي وحمل معه كل أملاك العائلة، هذا الميلاد جعله يتصل بالماضي عن طريق من بقي حياً من شهوده. [4]
انتقل والده إلى (تبسة) فعاش فيها طفولته وكانت هذه المدينة الصغيرة بعيدة نوعاً ما عن (الحضور الفرنسي) وذلك لاحتكاكها بالقبائل المجاورة؛ فحفظها الطابع البدوي عن الاختلاط مع الفرنسيين، وفي (تبسة) كان يدرس في الصباح العربية والقرآن ثم يذهب في الساعة الثامنة إلى المدرسة الحكومية الفرنسية، وفي المرحلة التكميلية كان يتابع دروس العربية والدين، وكانت المدرسة الفرنسية تشجعه على المطالعة عن طريق إعارة الكتب.
تعرَّف على تلاميذ ابن باديس من الشباب، وشعر أنه - وإياهم - على خط فكري واحد، وكان يقرأ (الشهاب) و (المنتقد) قبلها ولكنه لم يتصل بالشيخ ابن باديس ولا تتلمذ عليه، وفي (تبسة) حيث تعيش أسرته لم يتتلمذ أو يؤيد تأييداً قوياً الشيخ العربي التبسي، وكأن هناك حاجزاً نفسياً بينه وبين المشايخ، ويعترف بعد ربع قرن: (حينما تفحصت شعوري حول هذا الموضوع تبين لي أن السبب يكمن في مجموعة من الأحكام الاجتماعية المسبقة، وفي تنشئة غير كافية في الروح
الإسلامي) [5] .
ويتابع الحديث عن الأسباب الاجتماعية: (فأحكامي المسبقة ربما أورثتنيها طفولتي في عائلة فقيرة في قسنطينة، زرعت لاشعورياً في نفسي نوعاً من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة التي كان الشيخ العربي ينتمي إلى واحدة منها)[6].وكنت أعتقد أنني أقرب إلى الإسلام بالبقاء قريباً من البدوي أكثر من البلدي الرجل الذي يحيط به وسط متحضر، وكان الشيخ العقبي يبدو في ناظري
بدوياً، بينما يبدو الشيخ ابن باديس بلدياً ،
فقد تبين لنا أسباب جفائه لزعماء جمعية العلماء وهو شاب، أما عندما نضج فكرياً فسيكون له موقف مبني على أسس عنده سنتكلم عنها إن شاء الله .
بعد الانتهاء من الثانوية عمل متطوعاً في محكمة (تبسة) وهناك تعرف – من خلال تجوال أعضاء المحكمة في الريف - على رجل الفطرة الذي يستضيف أعضاء المحكمة رغم أنهم حكموا عليه بالضرائب والغرامات، ثم عمل موظفاً في
محكمة (أفلو) التي تقع جنوب وهران في غرب الجزائر، وهناك أيضاً تعرف على الكرم العربي والفطرة الصادقة: (فالناس في المدن لا يستطيعون فهم هذه العقلية أو ذاك النبل في عروق البدوي). [7]
وتعرف على فضائل الشعب الجزائري قبل أن يفسده الاستعمار، ثم انتقل للعمل في محكمة (شاتودان) ولم يطق معاملة موظفيها؛ فاستقال وتوجه إلى فرنسا وذلك عام (1930م) في محاولة للانتساب إلى معهد الدراسات الشرقية، ولكن طلبه رُفض؛ لأن الدخول لهذا المعهد - كما يقول هو -لا يخضع لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي. انتسب إلى مدرسة اللاسلكي ودرس الكهرباء والميكانيكا، وهذه الدراسة أعطته بُعداً آخر يقول عنها: ( فتح لي عالم جديد يخضع فيه كل شيء إلى المقياس الدقيق للكم والكيف، ويتسم فيه الفرد-أول ما يتسم-بمَيزات الضبط والملاحظة).
ولكن دخوله مع العمل الطلابي المغربى وتعرفه على صديقه (حمودة بن الساعي) بدأ يغير من اتجاهه العلمي إلى التعمق في الدراسات الاجتماعية.
تخرج مهندساً كهربائياً عام (1935م) وبدأ رحلة شاقة في البحث عن عمل في البلاد العربية وغيرها، وكانت الأبواب توصد في وجهه دائماً  وسبب ذلك في رأيه هو أنه أراد تمزيق شبكة الاستعمار ولم يدرِ أن سمك القرلق(الاستعمار) كان له بالمرصاد.
زار الجزائر في هذه الفترة، ولاحظ وقوع الناس في حُمى الانتخابات والدجل السياسي بعد المؤتمر الجزائري.
عاد إلى فرنسا في مطلع الحرب العالمية الثانية مودعاً الجزائر بهذه العبارة: ( يا أرضاً عقوقاً ! تطعمين الأجنبي وتتركين أبناءك للجوع، إنني لن أعود إليك إن لم تصبحي حرة !)، وبقي في فرنسا حتى عام (1956م) أصدر فيها باللغة الفرنسية: (الظاهرة القرآنية)، ( شروط النهضة)، ( وجهة العالم الإسلامي)، (الفكرة الإفريقية الآسيوية).
زار مصر عام (1956م) وبقي فيها حتى عام (1963م)، وكان له في مصر تلاميذ وأصدقاء، وزار خلالها سورية ولبنان ألقى فيها المحاضرات حول موضوع (مشكلات الحضارة)، وفي القاهرة أصدر: (حديث في البناء الجديد)، (مشكلة الثقافة)، في مهب المعركة، (تأملات في المجتمع العربي).
عاد إلى الجزائر عام (1963م) حيث عُين مديراً عاماً للتعليم العالي وأصدر في الجزائر: ( آفاق جزائرية )، ( يوميات شاهد للقرن)، ( مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي )، (المسلم في عالم الاقتصاد).
استقال من منصبه عام (1967م) وتفرغ للعمل الفكري .
      توفي في (31/10/1973م) في الجزائر - رحمه الله وغفر له - .
شخصيته:
يجتمع في مالك بن نبي خطان رافقاه طوال حياته، فهو شخصية عاطفية، خيالية أحياناً، يفكر بأحلام الفلاسفة ويهيم بالتجريد . يقول عن نفسه :( أنا شديد التأثر بالحدث، وأتلقى صدمته بكل مجامعي وبانفعالية تستطيع أن تنتزع مني دموع الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ )، وقد بكى عندما اندحر الجيش الفرنسى أمام ألمانيا عام (1940م) مع أنه يكره الاستعمار الفرنسى، ويعلق هو على هذا التصرف: (رأيت في ذاتي عنصراً آخر كشف كل التعقيد في ضمير مسلم) ولم يوضح ما هو هذا العنصر الآخر ولكن يبدو لي أنه عدم التوازن بين القيم الأخلاقية وأيها يصلح لتطبيقه على الحدث، وعندما سمع حديث والدته وذكرياتها عن الحج لم يستطع حبس دموعه فكان يتظاهر بالعطش ليخرج إلى الشرفة فيطلق العنان للدمع.
هذه العاطفة أنتجت له شخصية حالمة أحياناً، فعندما يسمع ويقرأ عن شاعر مثل (طاغور) تتفتح أمامه الأحلام عن الشرق وأن الإنقاذ ربما يأتي من روحانية الهند كما يسميها، وعندما يسمع بأنباء الخلاف بين الملك عبد العزيز آل سعود وإمام اليمن يكتب رسالة إلى سفارة اليابان يدعو حكومتها للتدخل باسم التضامن الآسيوي لمساعدة ابن سعود حتى لا تتمزق الجزيرة العربية، وطبعاً لم يستجب (الميكادو) لطلبه!
وفي الجانب الآخر نجد شخصية مالك الناقد المحلل الذي يمتلك القدرة الفائقة على النفاذ لأعماق المشكلة وبيان أسبابها، من خلال النظرة العلمية الصارمة، ومن خلال اطلاع واسع على الثقافة الغربية وكيف تنشأ الحضارات مع معرفة بواقع المجتمعات الإسلامية من خلال معرفته الشخصية بالمجتمع الجزائري، وهو في مقارناته وتحليلاته يشبه سلفه المغربي المؤرخ ابن خلدون، حيث تلتقط الذاكرة كل جزئية وكل حادثة ثم يبدأ التحليل والمقارنة ثم يخرج بالنتائج التي يرتضيها، يقول عن سكان (أفلو) عندما عمل عندهم كمساعد في المحكمة:
«فملكية الإنسان لأرض ما تخلق في نفسه غرائز اجتماعية قد سلم منها الراعي، ففي دعوى أمام القضاء في (تبسة) يستطيع كل فريق أن يقدم عشرة شهود زور بالمجان، وشهود كل واحد من الطرفين سيحلفان أنهما يقولان الحقيقة، أما في (أفلو) فقد لاحظت الرجل يرفض غالباً أن يحلف ولو كان ذلك لدعم حقه الواضح».
وعندما أراد القيام بعمل علمي مشترك مع صديقه (ابن الساعي) فشلت المحاولة؛ فعلق قائلاً: «ولم أكن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرض من تبعات إنما هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بعد خصوصاً بين مثقفيه».
هذان الخطان استمرا في حياة ابن نبي، فالعاطفة التي تجمح إلى الخيال أحياناً جعلته يعقد في الخمسينات آمالاً كباراً على «مؤتمر باندونغ» وظن أنه سيحل مشكلة العالم الثالث، ومن رفات (غاندي) سينطلق يوماً انتصار اللاعنف ونشيد السلم العالمى[8]. كما استمر النقد التحليلى للمجتمع الإسلامي ومواطن الضعف فيه فتكلم عن الذين يظنون أن الإصلاح يبدأ من (علم الكلام) كالشيخ محمد عبده، يقول: «إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه».
ويكتشف مالك جرثومة المرض، فالذين تركوا الطواف حول القبور وأخذ البركات من الدرويش لم يستطيعوا الاستمرار فتحولوا إلى الطواف حول وثن جديد وهو وثن الأحزاب السياسية والانتخابات [9] ، ولأن العمائم أسلمت القيادة إلى (المطربشين) ؛ لأن العلماء لم يكونوا على جانب من الخبرة بوسائل الاستعمار في مجال الصراع الفكري حتى يفطنوا إلى هذا الانحراف (الغوغائية السياسية).
العوامل المؤثرة في ثقافته:
      1 - وُلد مالك بن نبي في عصر سمع فيه من جدته لأمه قصص الاحتلال الفرنسي للجزائر، وعاش مأساة بلد يخطط الاستعمار لشل فاعليته، ومن ثم لتحويله إلى فريسة سهلة الالتهام، عاشها مالك يوماً بيوم في المدرسة الفرنسية حيث لا يسمح (لابن البلد) إكمال الدراسة الثانوية التي تؤهله للدراسات الجامعية، وعاشها في تحول المجتمع عن فطرته وكيف ساد الصعاليك بمعونة الإدارة الفرنسية، وكيف أصبحت العائلات العريقة فقيرة، ذليلة بسبب الاستيلاء على أراضيها، وكان اليهود هم الواسطة لانتقال الملكية من أبناء البلاد إلى أبناء المستعمر؛ فاليهودي دائماً كان يقرض بفائدة 60%، وعندما درس في فرنسا وعاش مع الجالية الجزائرية رأى الاستعمار من زواياه المختلفة، وشعر بخبث الأساليب التي يقوم بها لتمزيق العالم الإسلامي.
      2 - القراءات الغزيرة المتنوعة، فقد بدأ بالقراءة منذ أن كان صغيراً في الابتدائية، وقرأ كتب علم النفس والاجتماع وهو لا يزال في المرحلة الثانوية، وكان يقرأ كل الصحف التي تصل إلى قسنطينة أو تبسة، ولا شك أن هذا الاطلاع الواسع على الثقافة الغربية هو في جانب منه على حساب الثقافة الإسلامية وكان له أثر عليه أيضاً، فكثرة قراءاته لأعمال الفلاسفة جعلته يعتبر عصر الفارابي عند المسلمين هو عصر خلق الأفكار مع أن الفارابى وأمثاله لم يقدموا شيئاً يذكر للحضارة الإسلامية، وكانت نغمة (الإنسانية) و (العالمية) سائدة عند الفلاسفة الغربيين، ونجد مالك يكررها فيتكلم عن حضارة اليوم التي تسير نحو الشمول والعالمية [10]  ويستعمل أحياناً عباراتهم التي هي نتيجة انفصام عندهم بين الدين والعلم مثل قوله: ( إن الطبيعة توجد النوع ... ) [11]  أو وهبته الطبيعة.
      3 - ثقافته الإسلامية: يعترف مالك بأن الذي كان يرده عن الغلو في هذا الاتجاه (القراءات الكثيرة للفكر الغربي) هو ما كان يتلقاه من دروس في التوحيد والفقه، وقراءاته للكتب التي تأتي من المشرق العربي مثل: (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا، و(رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده، و(طبائع الاستبداد) للكواكبي، والمجلات الإسلامية الجزائرية مثل (الشهاب) التي يصدرها الشيخ ابن باديس، ولا شك أن ثقافته الشرعية ضعيفة ولكن عنده اطلاع على التاريخ الإسلامي وقدرة على فهم الآيات والأحاديث التي تتعلق بسنة التغيير الاجتماعى وبسبب عمق تفكيره وتحرُّقه على العالم الإسلامي كان يرى أن بذرة عودة الوعي للأمة الإسلامية هي في حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي يعتبرها امتداداً لما قام به ابن تيمية في التجديد، ولنفس السبب أيد جمعية العلماء في الجزائر وكان يعقد الأمل عليهم في الاصلاح وإن اختلف معهم بعدئذ، ولبُعده عن المشرق ولضعف ثقافته الشرعية كان يمجّد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ويرى أن الأول هو مصلح الشرق ؛ فثقافته الإسلامية خليط من آراء مدرسة الأفغاني ومحمد عبده ومن فهمه لآيات القرآن وسنن التغيير، وأنه لابد من الرجوع إلى طريقة القرآن والسنة في رفع الناس إلى مستوى الروح كما يعبر هو، والحقيقة أنه يجمع أشياء متناقضة وإن بدت منسجمة بالنسبة له.
      4 - ومن المؤثرات الواضحة في شخصيته ما عاناه من الفقر الشديد في طفولته، وحياة النَّصَب والتعب التي عاشها في شبابه بحثاً عن العمل، سواء في الجزائر أو فرنسا، فقد عمل بعد تخرجه من الثانوية في مصنع للأسمنت في مدينة (ليون) بفرنسا، فكان يحمل الأكياس على ظهره، ومرة باع بعض ملابسه حتى يوفر وجبة غداء، وبعد تخرجه من الهندسة طرق أبواب العمل في الدول العربية والإسلامية ولكن دون جدوى.
هذه الأوضاع النفسية جعلته يكره - وهو صغير - الدور المترفة التي كانت تفضح أمام ناظريه بؤس أقاربه، وأحكامه المسبقة كانت بسبب العيش في عائلة فقيرة زرعت لاشعورياً في نفسه من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة ، وكان يعجبه مطالعة صحيفة (الإقدام) التي يصدرها الأمير خالد الجزائري والتي كانت تركز على موضوع الفلاح الجزائري وبؤسه.
هذا ما يفسر لنا  ميله  للدول  التي  بدأت بتطبيق الاشتراكية كالجمهورية العربية المتحدة والجزائر بعد استقلالها وبتأثير من هذه الدول كان يظن أن الاتحاد السوفييتي ليس عنده مُناخ استعماري وهو صديق للشعوب!
مشكلة الحضارة:
 ينطلق فكر ابن نبي من سؤال لا يزال يلح على المسلمين منذ أن صدموا بالحضارة الغربية وهى تطرق الأبواب وتدخل من كل المنافذ، وكان السؤال: ما هي أسباب تقهقر المسلمين ؟ وما هي شروط النهضة ليستعيد المسلمون دورهم وفاعليتهم المفقودة وليكونوا شهداء على الناس ؟. وكانت الإجابة عن هذا السؤال هي محور كتابات وأقوال الذين تصدوا لحركة الإصلاح والنهوض بالأمة على اختلافهم في القرب أو البعد عن الصواب. بل إن كثيراً منهم كانوا ( لا يعالجون المرض بقدر ما يعالجون أعراضه )[12]، وأما الإجابة المتبادرة : (لابد من العودة للدين) فهي وإن كانت صحيحة بلا شك ولكنها بحاجة إلى تفاصيل، فعندما ندخل في عمق الموضوع ونبدأ بالعمل سنجد أن هذا المسلم المقتنع بهذا الجواب يحمل بين جنتبيه أمراضاً اجتماعية وفكرية ونفسية تعيقه عن فهم الكتاب والسنة فهماً صحيحاً، ليتحول هذا الفهم إلى فعالية للتغيير، وهذه الأمراض كانت نتيجة تراكم عصور من الابتعاد عن العلم النافع والعمل المثمر، فالأمة الإسلامية (كالفارس الذي أفلت الركاب من قدميه ولم يسترده بعد، فهو يحاول أن يستعيد توازنه ) [13]
كيف نصوغ عقل هذا المسلم مرة أخرى حتى يعود إلى فعاليته ؟ من هنا ينطلق ابن نبي ليقول: ( إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، ما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها)[14].
فالمسلم الآن لا يعيش حالة «حضارة» وإنما هو من بقايا حضارة وهي الحضارة الإسلامية طبعاً، ولابد من إدخاله مرة ثانية في دورتها، فالإنسان السابق على الحضارة (العربي قبل البعثة مثلاً) هو مثل جُزَيء الماء قبل وصوله إلى خزان ينتج الكهرباء، فهذا الجزيء منطو على طاقة مذخورة، قابل لتأدية عمل نافع، ولكن هذا الجزيء يفقد طاقته بعد أن استنفذها في إنتاج الكهرباء، وإذا أردنا أن نعيد له قوته علينا أن نرفعه مرة ثانية إلى مكان عال، أو أن يتبخر ثم يتكثف ليعود جزءاً من طاقة مائية تقع قبل خزان معين ) [15].
ورفع المسلم إلى هذا المكان السامق لا يتم إلا بشحنة إيمانية عالية وأخلاق كأخلاق الصحابة، ولا يتم هذا إلا (بتوتر روحي) حسب تعبير مالك.
ماذا يقصد بالحضارة ؟
 (هي: مجموع الشروط الأخلاقية والمادية، التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده - في كل طور من أطواره -وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية) [16]
أو: (هي: إنتاج فكرة حية تطبع على مجتمع الدفعة التي تجعله يدخل التاريخ) [17].
(هي ليست كل شكل من أشكال التنظيم للحياة البشرية في أي مجتمع كان، ولكنها شكل نوعي خاص بالمجتمعات النامية واستعداد هذه المجتمعات لأداء وظيفة معينة ) [18] ، وهي جوهر الوجود للمجتمع، وعكسها هو: الهمجية والعودة إلى البدائية المترحلة [19] ، فالعرب انتقلوا بالإسلام إلى حضارة، والشعوب الأخرى انتقلت بعقيدة من العقائد إلى حضارة، فهي قدرٌ محتوم لمجتمع يتحرك لبناء نفسه ولأهداف معينة.
أما العوامل التي تشكل الحضارة؛ فقد صاغها على شكل المعادلة التالية:
ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت.
ولكن هذه المعادلة لابد لها من مُركّب أو مفاعل، وهذا المركب هو (الدين) سواء كان ديناً حقاً كالإسلام، أو بقايا دين أو عقيدة تبلغ عند أصحابها مبلغ الدين في الحماسة لها والتضحية في سبيلها.
(لكي نقيم حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها) [20]. فالحضارة لا تستورد ولا تفصل لكل أمة على مقاسها، وهي التي تلد منتجاتها وليس العكس.
من هذه التعاريف يتبين لنا أن: ابن نبي له تعريفه الخاص للحضارة، فهي شكل راق من الحياة الأخلاقية والمادية، وهناك حضارة إسلامية، حضارة غربية... إلخ.
وحسب تعريفه هذا : فإن الصين الحديثة أقلعت باتجاه حضارة، فقد اجتمع لها الحماس للفكر واستخدام التراب والوقت، وقبْلها اليابان وروسيا ... ورغم أهمية هذه المعادلة بالنسبة للعالم الإسلامي الذي لم يقلع بعد . ورغم نقد أبن نبي للحضارة الغربية المادية وجشعها، فإن رائحة المادية تفوح من هذه التعاريف، فروسيا أقامت نهضتها الصناعية بعد أن قتلت وشردت الملايين، وقُل مثل ذلك في الصين، فهل المهم هو استغلال الوقت والتراب ولو على حساب الإنسانية ؟! وأما العنصر الأخلاقي أو الروحي (Ethes) أو ما أسماه (الفكرة الدينية) التي يكون أصلها من السماء، فقد استوحاها من (كسرلنج) الذي يقول :( وكان أعظم ارتكاز حضارة أوربا على روحها الدينية).
ويعرف الروح الدينية: (ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على منطق أو عقل أو مبادئ مجردة، وإنما هو بصفة عامة: ذلك الشعور القوي في الإنسان، والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء)[21] .
فهذا المفكر يعتبر أن ( الروح المسيحية ) و( مبدأها الخلقي ) هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوربا سيادتها التاريخية، وجاء مالك وأخذ عنه هذه الفكرة ووضعها قاعدة عامة لكل الحضارات، وأخذ عنه أيضاً وعن (شبنجلر) تقسيمه لدورة الحضارة إلى المراحل الثلاث: روحية، وعقلية، وغرائزية، وإن كان ابن خلدون قبلهم قد قال بمثل هذا ولكنه تكلم على الدول ولم يتكلم عن الحضارات، ومقولة: (أنه لا توجد حضارة إلا وللدين أثر فيها) صحيحة من حيث الجملة، وقد قال بها ابن تيمية أيضاً [22]، ولكن يبقى الإشكال هو: وضع الإسلام موضع المساواة مع أي فكرة دينية واعتباره شعلة أخلاقية تصلح لتركيب المعادلة، هنا موضع الخطورة والنقص، فالمفكر (كسرلنج) عندما يتكلم عن النصرانية يتكلم عنها كجزء من الأجزاء المكونة للحضارة الغربية، ولكن الإسلام دين شامل وليس مبدأ أخلاقياً فحسب، وقاعدته الأساسية هي التوحيد الذي ينبني عليه الأخلاق والآداب والتشريعات .. وما يعتبر فناً رائعاً عند من يكتب عن الحضارات يعتبر حراماً في الإسلام.
والواقع أن ابن نبي غير واضح في هذه المسألة، فنراه واعياً لمسألة الشمولية عندما يعتبر العصر الراشدي هو النموذج دائماً وتعاطفه وتأييده للحركات الإسلامية، مثل: حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركة جمعية العلماء في الجزائر، وربما يكون ضعفه في العلوم الشرعية هو الذي جعله يقع في أخطاء توحي بعدم الشمولية، وخاصة في موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية.
ومع ذلك فإن طرحه لمشكلة الحضارة بمعناها الواسع هو من الأهمية بمكان، ولذلك سنمضي معه في وقفته الطويلة عند هذا الموضوع.
إن ارتفاع المسلم إلى مستوى «حضارة» ( فيتعلم كيف يعيش في جماعة، ويدرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية) [23] ، ويتعلم كيف يكون لبنة في (البنيان المرصوص)، هذا الارتفاع لابد منه وهو المطلوب الآن، بينما نرى في الواقع أن المسلم الذي لا ينقصه الإخلاص لا يستطيع مجابهة مشاكله وكيف يحلها، لأنه تعلم وأخذ شهادات مدرسية ولكنه لم يتثقف، ولم يتشرب من بيئته في المنزل والمدرسة كيف يكون فعّالاً، وكيف يقوم بأعمال مشتركة مع الآخرين، والإسلام عندما رفع العرب إلى مستوى (حضارة) عدّل من طباعهم حتى تكون وسطاً، ووضعهم بين حدّي الوعد والوعيد، وعدل من غرائز الإنسان ولم يكبتها (حرّم الزنا وشجع الزواج) ؟، وهكذا دخل العربي وغير العربي في حضارة الإسلام، وأصبحت شخصية المسلم شخصية سوية ليس فيها عُقد نفسية أو اجتماعية، وعندما عُزل خالد بن الوليد –رضي الله عنه- عن قيادة الجيوش في الشام لم يُحدث عزله أي مشكلة، ولو حصلت هذه الحادثة بعد بضعة عقود من السنين لزلزلت الأرض.
والمسلم الذي هو (خارج من حضارة) -كما يعبر مالك بن نبي- يتصرف بأنانية مفرطة، قد تضخمت عنده (الأنا) ؛ فلا يرى إلا نفسه ولا يهتم إلا بمصلحته الخاصة، ولا يستطيع أن يقوم بعمل تعاوني مع غيره، وإذا ذهبت إلى منزل هذا المسلم (الطيب) ستجد آثار تضييع المال ودون قصد منه في كثير من الأحيان، فأولاده يحطمون كل شيء، وبقايا الطعام تتناثر فوق السجاد الفاخر، والأم الجاهلة تنظر إليهم وكأن شيئاً لم يكن، ولأنه لم يرتب أموره الاقتصادية تذهب أمواله إلى أصحاب المصانع في الغرب والشرق لتكون عوناً لهم على المسلمين، مع أنه يعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن (إضاعة المال). وعندما أراد بلد كأندونيسيا النهوض باقتصاده استدعى الخبير المشهور (شاخت)، ولكن خطط هذا الخبير لم تنجح في أندونيسيا ونجحت في ألمانيا الغربية، والسبب هو: أن الشعب الأندونيسي لم يرق بعد إلى مستوى (حضارة).
      وعندما يتم استيراد الأجهزة الحديثة من أفضل ما أنتجته التقنية الغربية لا يستفاد منها كثيراً في بلادنا، لأنه لا يوجد جو اجتماعي ثقافي يحيط بها ويحفظها، فالنظم الاستبدادية جعلت العقول العلمية تهاجر إلى الغرب.
هذا ما يقصده مالك بن نبي عندما يبدأ ويعيد في موضوع الحضارة، وأن المسلم لا يعيش ولا يتنفس الثقافة الملائمة له، وإنما يحمل أمراض بيئته المتخلفة وهو لا يشعر، ونحن نوافقه من هذا الجانب، ولذلك سنبدأ بعرض بعض المعوقات التي يراها مانعة من دخول المسلم في (بادرة حضارة) وتعرقل مساعيه للانطلاق والنهوض.
القابلية للاستعمار
 عندما يستعرض مالك بن نبي التاريخ الإسلامي يقسمه إلى فترات ثلاث:
1- الفترة الروحية التي دخل المسلمون فيها إلى حضارة إسلامية: وتبدأ ببداية البعثة النبوية وتنتهي عند معركة صفين، وتتميز هذه الفترة ( بأروع صور الزهد والتقشف التي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثلها الأعلى، كما تتميز بالتضحية من قبل الصحابة مثل: أبي بكر وعثمان وعمر..) [24].
وفي هذه الفترة خضعت كل النوازع للإيمان، وغابت كل الأنانيات والعصبيات، واندفع المسلم بكل طاقاته وإمكاناته، وكانت شبكة العلاقات الاجتماعية على أقوى ما يتصوره إنسان، وبلغة علم النفس: فإن الفرد يكون في أحسن ظروفه ويعيش التوازن الدقيق بين: الروح والعقل، أو بين: الروح والمادة
2- الفترة العقلية: وتمثل أوج ازدهارها المدنية الإسلامية كالفترة الأموية والعباسية الأولى، وفيها تدون العلوم وتتأسس المدينة ويستبحر العمران- كما يعبر ابن خلدون.
(بيد أن العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع في التمرد بالتدريج) [25]، وتضعف قليلاً شبكة العلاقات الاجتماعية ولكن المجتمع يستمر قوياً بالاندفاع الأول ؛ حتى يصل لمرحلة تنتهي فيها قوة الاندفاع كمحرك استنفذ آخر قطرة من وقوده، وتنتهي هذه الفترة بانتهاء عصر دولة الموحدين في المغرب.
 3 - مرحلة الغرائز التي تستمر حتى بداية هذا القرن: حيث يحاول العالم الإسلامي النهوض، وفي هذه الفترة تتغلب الغرائز الفردية والتفكك الاجتماعي، ويعيش المسلم على هامش التاريخ، والمجتمع مكوَّن من أفراد لا ينقصهم التدين في كثير من الأحيان ولكنه تدين فردي، فهو يحاول إنقاذ نفسه في الآخرة، ولكن لم يعد يملك التماسك الاجتماعي وتسخير ما خلق الله له لبناء حضارة، فهم أفراد من بقايا حضارة يحملون بين جنوبهم ما يسميه مالك بن نبي (القابلية للاستعمار)، فالمجتمعات الإسلامية المعاصرة لم تُستعمر إلا لوجود هذه القابلية لديها، وقد يتعرض بلد من البلدان للاحتلال والغزو ولكنه يقاوم، أما الاستعمار فهو صفات نفسية في المستَعمِر والمستعمَر، فهناك فرق بين الاستعمار والاحتلال، وقد استعمرت بريطانيا بلداً كبيراً كالهند ولكن إقليماً صغيراً كأيرلندا الشمالية استعصى عليها، وإن بلداً كاليمن لم يدخله الاستعمار ولكنه مصاب بنفس أمراض العالم الإسلامي.
وقبل أن نمضي مع مالك بن نبي في تحليله للفترة الثالثة، لابد من إبداء تحفظ على هذا التقسيم الحاد للتاريخ الإسلامي الذي يبدو فيه أقرب إلى عقلية المهندس [26] منه إلى عقلية المؤرخ، فتركيزه على صِفِّين جعل حكمه قاسياً على الفترة التي أعقبتها، بل وقع في أخطاء تاريخية وشرعية، والضعف العلمي الذي غلب على الأمة الإسلامية إنما هو بعد القرن التاسع وليس بعد الموحدين مباشرة.
وقد عبر ابن خلدون عن هذه الحالة بنبرة الأسى والحزن: (وكأني بالمشرق قد نزل به ما قد نزل بالمغرب ولكن على مقدار ونسبة عمران، وكأنما لسان السكون ينادي في العالم بالنوم والخمول فأجاب) [27] ، ومجيء دولة قوية كالدولة العثمانية لم يغير من الناحية الحضارية شيئاً، حتى إذا جاء القرن الثاني عشر الهجري كانت الأمة الإسلامية في غاية الضعف والتمزق.
(وأصبحت دوافع الحياة فاترة، يعبر عنها قول أحدهم عندما يسأل عن مهمة حياته: «نأكل القوت وننتظر الموت») [28].
إن الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يركز عليها مالك بن نبي ربما تظهر لبادي الرأي أنها صغيرة وليست هي مشكلة المسلمين الرئيسية، والجواب على ذلك: أننا حتى لو اعتبرناها صغيرة ولكنها مهمة جداً لأنها كحبات الرمل التي تستطيع إيقاف آلة ضخمة.
الشلل الأخلاقي:
إن أخطر مرض أصاب المسلمين هو الانفصام بين النموذج القرآني والتطبيق العملي، فقد انعدمت الدوافع الآلية التي حركت الرعيل الأول من الصحابة [29].
ويلخِّصها قول الفرزدق الشاعر للحسين بن علي –رضي الله عنه- واصفاً أهل العراق: (قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية )، وبدأ ضمير المسلم يتهرب من الحقائق المنزلة (وحركة الخوارج والمعتزلة مثال على ذلك) [30] ، ولكن هذا المرض ازداد فشواً في مجتمع (ما بعد الموحدين)، فأصبح المسلم نتيجة لغروره لا يحاسب نفسه، ولا يعترف بأخطائه، وأصبحت المعادلة: (بما أن الإسلام دين كامل وبما أنه مسلم، فالنتيجة أنه كامل، وبذلك اختلت أي حركة عنده لزيادة الجهد والتقدم)[31].
ونتيجة لهذا الخلل ضعفت الروابط الاجتماعية: ( فعالم الأشخاص لا يتألف ضمن منهج تربوي، يهتم بالأخلاق ) [32] ، وهذا التآلف مهم جداً، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال:63]، ومبدأ المؤاخاة الذي قام بين المهاجرين والأنصار أصبح من الخطابات السعيدة، والأخوَّة الإسلامية أصبحت كلاماً للزينة وشعور تحجر في نطاق الأدبيات [33]، وهذا الضعف يقصد به المجتمع ككل ولا يقصد به كل فرد، فلا يزال في الأمة (كأفراد) خير كثير، ولا يزال الناس في الريف أقرب للفطرة.
عدم الفعالية:
وكان من نتائج هذا الانفصام الأخلاقي: أن المسلم يحمل أفكاراً صحيحة ولكنه لا يستطيع تطبيقها في دنيا الواقع، كفريسة تعرضت للشلل حتى يسهل ابتلاعها، لأن البيئة التي تحيط به وتغذيه بثقافتها أصبح مثلها الأعلى هو الزهد الأعجمي والصوفية أصحاب المرقعات، ولا يتمثلون بعمر بن الخطاب أو بعبد الله بن المبارك أو الإمام مالك، (والمسلم في هذه الحالة إنما يغالط نفسه، فيهرب إلى هذه التعلات الصوفية الكاذبة) [34] ، وفي المقابل: نجد عند الغربيين أفكاراً قد لا تثبت أمام النقد الموجه لها ولكنهم استخدموها إلى أقصى ما يستطيعون، مثل: فكرة (التقدم)، والمسلم يحمل القرآن ولكنه لا يستفيد منه كثيراً في التخطيط لنهضة قادمة، فعقلية ما بعد الموحدين تشله عن الإبداع، هناك خلل في طريقة تفكيره، فعندما اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية لم يستفد منها المجتمع الإسلامي لأنه لم يكن على المستوى الثقافي الذي يحيط هذا الاختراع بالرعاية، والمشكلة: ( أن مجتمع ما بعد  التحضر يسير إلى الخلف بعد أن انحرف عن طريق حضارته وانقطعت صلته  بها) [35].
أمثلة على هذا الخلل: 
1- ذهان السهولة (مرض السهولة): يميل المسلم في تقويمه للأشياء إما للغلو فيها أو للحط من قيمتها، ويتمثل هذا في نوعين من الأمراض: فإما أن الأمور سهلة جداً ولا تحتاج إلى تعب وكد فكر، والحل بسيط، وإما أن الأمور مستحيلة، وأبرز مثال على مرض (السهولة): قضية فلسطين، فقد قيل: إن إخراج اليهود سيتحقق بعد أشهر، ولو نفخنا عليهم نفخة واحدة لطاروا، ولكنهم في الحقيقة لم يطيروا، ( وهناك من يظن أنه بخطبة رنانة تحل مشاكل المسلمين، وبعضهم يكره أن تدعوه إلى تفكير عميق في موضوع ما من الموضوعات لأنه يؤثر السهولة ويكتفي بتفسير سطحي، وعندما تخطط السياسة طبقاً لمبدأ السهولة فإنها سوف تجتذب إلى تيارها كثيراً من الناس ذوي النوايا الطيبة، الذين يقدرون الأشياء بناء على سهولات الحاضر لا على صعوبات المستقبل) [36]  وأيسر طريق لأصحاب السياسات الانتهازية أن يستخدموا كلمات مثل: الاستعمار والإمبريالية والوطنية ؛ للتغرير بالشعوب، هذه الكلمات التي (تليق جداً لتشحيم المنحدر حتى يكون الانزلاق عليه نحو السهولة ميسوراً جداً) [37].
2 - ذهان الاستحالة: وقد يحدث العكس، فيرى المسلم أن الأمور مستحيلة ويقف أمامها عاجزاً، وهي في الحقيقة غير مستحيلة ولكن ربما يضخمها عمداً حتى لا يتعب نفسه في الحل، أو أنه يشعر بضآلة نفسه وصغر همته فيحكم عليها بالاستحالة، وقد مرت فترة كانت بعض الشعوب تنظر إلى صعوبة إخراج المستعمر من بلادها [38].
وقد تجد اليوم بعض المسلمين الذين ينتظرون (معجزة الرجل الوحيد) كأن يأتي صلاح الدين آخر ليوحد المسلمين من جديد، ويعتقدون استحالة أية محاولة لاستئناف حياة إسلامية.
3- طغيان الأشياء: عندما يكون مجتمع ما في حالة نهوض يجب أن يتحقق الانسجام والتوازن بين هذه العوالم (الأشياء والأشخاص والأفكار)، ولكن الحقيقة أن النزعة (الكمية) هي المسيطرة، ( فلا يسأل المؤلف عن الموضوع الذي تناوله في بحثه، وإنما يسأل عن عدد صفحات الكتاب، وقد يقع المؤلف نفسه في هذه النزعة فيفتخر بأنه أخرج كتاباً من كذا صفحة ) [39].
وعندما تريد إحدى المصالح الحكومية تجهيز مقرها: تزوده بعدد خيالي من المكاتب، بحيث يتعذر توفير المكان اللازم لها، والموظف الكبير يجب أن يكون في غرفته أربعة تلفونات وخمس أجهزة تكييف، ومشكلة التنمية تعالج بزيادة الضرائب التي تشل جميع أوجه النشاط الفردي، وفي هذه الأجواء يظن الفرد أن (التكديس) هو الحضارة، فيشتري منتجات الغرب بكميات أكثر مما يحتاج له، (وإذا كان مجتمع ما قبل التحضر فقيراً في عالم الأشياء، فإن مجتمع ما بعد التحضر مكتظ بالأشياء ولكنها خالية من الحياة)[40].
طغيان عالم الأشخاص:
عندما يتعلق الناس بالأشخاص أكثر من تعلقهم بالمبدأ أو الفكرة فإنهم يرون أن إنقاذهم من الحالة التي هم عليها بـ (البطل القادم) الذي ينتظرونه دون أن يقوموا بجهد يذكر.
فالخلاص لا يتم بتجمع أناس على مبدأ يدافعون عنه، ويتفانون فيه، ويتقنون فن التعاون ؛ بل بالرجل الذي يجمعهم ويوحدهم، وقد يطول انتظارهم وهم يمنون أنفسهم بالأماني، وهكذا نسمع الخطباء لا يفتأون يذكرون (أين صلاح الدين) أو (قم يا صلاح الدين)، فهم يريدون (صلاحاً) آخر ينقذهم، ولاشك إن (إجلال رجل القدر) مثل إجلال (الشيء الوحيد) مرض منتشر في أرجاء العالم الإسلامي، وهو أحياناً السبب في إفلاس فادح لسياسات عديدة [41] وقد لا يكون هناك رجل القدر ولكن (رجل النحس) الذي نلقى عليه كل ضعفنا وفشلنا، وبدلاً من أن نتدبر الأحداث، ونبحث بطريقة أعمق عن الأسباب الحقيقية لفشلنا يمكن بكل سهولة أن نلصق التهمة بـ (رجل النحس).
فعندما وقع انفصال سورية عن مصر عام (1961م) قالوا: إن السبب هو رجل النحس (حيدر الكزبري) ولكن من الواضح أن الانقلاب كان لابد واقعا في وجود الكزبري أو في غيابه، فجيم عوامل التشجيع على هذا الانفصال كانت متوفرة، سواء من الأخطاء التي وقعت أو من عدم توفر فكرة مضادة للانفصال[42].
وقد تتجسد الأفكار بأشخاص ليسوا أهلا لحملها فتحسب كل أخطائهم وانحرافاتهم على المجتمع الإسلامي أو على الإسلام، وقد تتجسد بأشخاص يحملونها ولكن إذا ماتوا انتهت هذه الأفكار بموتهم، أو فتر حماس الأتباع، لقد مارس العالم الإسلامي، دور البطولة في كفاحه ضد الاستعمار عندما بزغ في سمائه أبطال مثل عبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، وعز الدين القسام.. ولكن مشكلة المسلمين الأساسية لم تحل ( لأن من طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد ) [43] ولا يعني هذا إنكار دور هؤلاء الأبطال، أو التقليل من شأنهم، ولكنها العودة إلى الأصل وهو إنشاء تيار إسلامي قوي يتعلق بالمبدأ ويقوم بالجهد الجماعي، ولذلك جاءت الآية القرآنية حاسمة في هذا الموضوع، إن الواجب على المسلمين قيادة الدعوة وحمل الرسالة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:  {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144].
يركز مالك بن نبي في أكثر كتبه على هذا المرض، ويطالب المسلمين، والشباب بشكل خاص، بأن يتحول للارتباط بالمنهج لا بشخص معين، لأن هذا الشخص مثل الرأس الذي يقود عربات القطار، فإذا انحرف انحرف القطار كله، وهذا الذي يثيره الأستاذ مالك صحيح بشكل عام ولكنه بالغ في تهميش دور الأشخاص مع أنهم هم الذين يحملون الفكرة ويجسدونها عملياً حتى يقتنع الناس بها، وكلامه فيه شيء من التجريد والمثالية، وهذا الإسلام، وهو حق صريح، إذا لم يحمله أشخاص يتمثلونه ويثرونه بين الناس فلا ينتشر إلا قليلاً.
طغيان الأفكار:
إذا كان هناك طغيان في عالم الأشياء وعالم الأشخاص، فقد يصل الأمر إلى طغيان في عالم الأفكار، فعندما يكون المجتمع في حالة مضطربة، فلا هو بداية دخول الحضارة، ولا هو خارج تماماً عن الحضارة، في هذه الحالة قد يفقد المتعلم تكيفه مع الوسط الاجتماعي، أو لا يستطيع أن يقوم بعمل مثمر يرضي ضميره، عندئذ يلجأ إلى البحث في الأفكار المجردة النظرية التي لا تأخذ طريقها إلى التطبيق، وبدل أن يتكلم عن معاناة الناس ومشاكلهم والتخطيط لمجتمع أفضل فهو يتكلم عن الماضي الذي ليس له صلة بالحاضر، أو يفتعل معارك وهمية ليكون هو أحد أبطالها، وتدفع المطابع كل يوم عشرات الكتب التي لا تمس الواقع المعاش بل هي هروب مفتعل من الواقع، وقد تطغى الأمور النظرية على مدرس في الجامعة فيتحدث عن تركيب الأدوية وعن النباتات ويجهد نفسه في وصف بعض النباتات بدلاً من أن يمد يده من النافذة ويقطف واحدة منها ليقدمها إلى الطلبة حية نابضة، ولكنه مع الأسف يبحث عنها في الكتاب، فهو كل شئ بالنسبة له [44].
وقد يبلغ الخلل في عالم الأفكار، إلى درجة أن يعرقل المبادرات والجهود، وهو ما يسميه مالك بن نبي «الأفكار الميتة» (فالبديهيات في التاريخ، كثيراً ما قامت بدور سلبي كعوامل تعطيل مثل بديهية: الأرض مسطحة، فإنها حالت دون اكتشاف أمريكا قروناً طويلة) [45] ، والبوصلة التي ساعدت كولومبس على اكتشاف أمريكا هي من اختراع المسلمين !، وقد كان من حكم الطب القديم أن الحرارة مثلاً دواؤها الرطوبة ولا بأس بهذه الحكمة ما لم تكن قيداً يقيد الفكر فلو استسلم الطب لحكمة كهذه مع صلاحيتها في بعض الظروف لما وجد (باستور) طريقاً لاكتشاف العلاج النافع لداء (الكلب) مثلاً [46].
ولا شك أن هناك كثيراً من الأفكار خذلت أصحابها لأنها لا تحمل أصولاً صحيحة، فكم أهدر من الوقت في جدل ومناقشات، وكم سودت من صفحات مبنية على أحاديث موضوعة أو ضعيفة، وكم عاش المسلمون متأثرين بأفكار الصوفية التي تدعو إلى البطالة والزهد غير المشروع حيث كان مثلهم الأعلى (المجاذيب).
الحق والواجب:
يميل الفرد بطبيعته إلى نيل حقه، وقد ينفر من القيام بواجبه، والأمة التي تصاب بمرض (السهولة) وعاشت قروناً من التخلف، فإن من أهون الأشياء عليها التي لا تكلفها كثيراً هو المطالبة بالحقوق، ونسيان الواجبات، فهي تشبه الكائن (الأميبى) المتبطل، حتى إذا رأى فريسة هينة أبرز إليها ما يشبه اليد ليقنصها، ثم يهضمها في هدوء وبقى هذا ا الكائن يأكل من حاجاته المتواضعة حتى إذا جاء الاستعمار لم يدع له شيئاً فتحرك ضميره (أي معدته) فمد يده إلى فريسة وهمية أطلق عليها لفظة (الحق) [47].
وكان هذا منشأ سياسة الدجل التي مارسها من يتقن هذه الأدوار، وللمطالبة بالحقوق إغراء شديد فهي كالسم لا يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة الواجب لا تجتذب غير (النافعين) [48] ، وعندما يستغلها الزعماء المهرجون لتجميع الغوغاء من الشعب ويلعبون بمفتاح (الحقوق) فسيكون من الصعب أن يستخدموا مفتاح الواجبات وتتحول الأمة إلى استجداء حقوقها من الأمم المتحدة ومجلس الأمن والرأي العام العالمي ولكن ما من مجيب، لأن هذه الأصنام ما نصبت إلا لتخدير الشعوب وتعليمها لغة الاستجداء.
وعلى الصعيد السياسي فإن كلمة الواجب توحد وتؤلف بينما كلمة الحق تفرق وتمزق، وهكذا ما خرجت دولة من دول العالم الثالث من ربقة الاستعمار إلا وتناحرت أحزابها على المطالبة بحق اقتسام الغنيمة، بدلاً من أن يتكلموا عن الواجبات، وهذا ما حصل في الجزائر، واليمن الجنوبي، ونيجريا، والكونغو … [49]
ومن الأمثلة التي ترويها ذاكرة الأستاذ مالك بن نبي حول هذا الموضوع: (شاهدت خلال بعض المواقف السياسية في الجزائر جيلاً من السياسيين يقفون من قضية مهمة بالنسبة للشعب الجزائري وهي قضية الأمية، يقفون منها موقفاً جديراً بالملاحظة، فقد كتب هؤلاء السياسيون المقالات الطويلة لشرح هذا المرض الاجتماعي الخطير، موضحين نتائجه المنكرة في حياة الفرد، وهم في هذا كله يهاجمون الاستعمار في خطب ملتهبة بالحماس متقدة بالوطنية، وهكذا يستمرون في خطبهم ومقالاتهم حتى تتقطع أنفاسهم عن الكلام، وتمر الأعوام تلو الأعوام والمشكلة لا تجد في مجهوداتهم حلها، ذلك أنهم لم يدخلوا إلى المشكلة من طريق حلها، لقد أصدرت الحكومة الفرنسية عام (1940م) قوانين استثنائية قاسية حول تنظيم التعليم في مختلف مراحله بالنسبة للطائفة اليهودية (مسايرة لألمانية الهتلرية) وشعرت الطائفة بأن أطفالها قد أصبحوا مهددين بالأمية غير أنها لم تكتب مقالة واحدة تستنكر هذا الإجراء، ولم يلق واحد منها محاضرة عن هذا الأمر، وإنما اجتمعت النخبة فيها ودرست المشكلة لكي تحدد موقفها منها، وحددت موقفها بأن يتطوع كل ذي علم بقدر ما عنده من العلم، وهكذا أصبح كل بيت من بيوت المتعلمين مدرسة في ساعات معينة، ولا نستطيع أن نبرر هذا بتفوق اليهود المادي أو العلمي لأننا لا نستطيع أن نفترض أن الدكتور أو الصيدلي أو المحامى اليهودي أغزر علماً من زميله الجزائري، فالاختلاف هو في الموقف الاجتماعي إزاء مشكلة معينة ) [50].
مثال آخر يتذكره ابن نبي وهو يحلل هذه المشكلة: ( وبدلا من أن تكون البلاد (الجزائر) ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات فإنها أصبحت منذ سنة (1936م), سوقاً للانتخابات، وصارت كل منضدة في المقاهي منبرا تلقى منه الخطب الانتخابية، وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب، أو قطيع انتخابي يقاد إلى صناديق الاقتراع، وفى هذا اختلاس أي اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها ) [51].
وهذا المرض لا يزال مسيطراً على العقول، فكثيراً ما نسمع في قرية من القرى أو حي من الأحياء المطالبة بحقهم في فتح طريق أو تنظيف شارع أو فتح مدرسة، وكان بوسعهم أن يتعاونوا لإنجاز مثل هذا العمل.
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم الناس القيام بالواجب عندما أعطى الذي جاء يطلب صدقة حبلا وفأسا وأمره أن يحتطب ولا يتكفف أيدي الناس [52].
العقلية الذرية:
يقصد بهذا المصطلح أن بعض الناس ( ينظر إلى الأحداث والوقائع مجزأة منفصلة فردية، كأنما في مجموعها لا تكون حلقة من التاريخ وإنما كوماً من الأحداث ) [53].
وهذه العقلية موجودة في أوساط المسلمين بسبب بعدهم عن (الفعل الحضاري) وبسبب التكوين الاجتماعي الذي ورثناه، ومن مظاهرها ( أن جهودنا في كل مجال لا تتسمم بالجهد المتواصل ولكن بالمحاولات المتتابعة، فما أن يبدأ نشاط ما حتى يذهب فجأة كأنه وثبة برغوث أو كأنه مركب على صورة الخط المنقط الذي يمر من نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئاً، ولنعتبر على سبيل المثال كم منذ نهاية الحرب ظهرت مجلة في بلادنا ثم اختفت بنفس السرعة ) [54].
ومن مظاهر هذه العقلية ( العجز عن أن نعقد صلات بين الأفكار وعن أن نعطي لمناقشة مشكلة ما حركة متصلة مطردة لا يحجل فيها الفكر من نقطة إلى نقطة، بل يطرد دائماً من مقدمة إلى نتيجة ) [55] ( وإذا كان من الممكن تجزئة المشكلة لتجزئة حلولها «فكل الطرق تؤدي إلى روما» ولكن الطريق عبر المنهج هو أطول الطرق بلا شك، إن طريق الحضارة لا يمكن خطه بإقامة مدرسة هنا ومصنع هناك وسدٍّ هنالك، أو بوضع سلة معدنية في جانب هذا الشارع حيث لا أحد يفكر في إلقاء المهملات ) [56].
ولو أننا تعودنا الربط والتعميم وتتبع الجزئيات من الكليات لما استغربنا تشابه المشكلات الخارجية التي يواجهها العالم الإسلامي، فالعالم الذي نواجهه (الاستعمار) لا تأتى فيه الأشياء عفواً وإنما كنتائج لخطط محكمة، فعندما تفشل بعثة علمية في بلاد الغرب أو أحد أفراد هذه البعثة نفاجأ: كيف حصل هذا ؟ [57].
ولو تتبعنا بعض الظواهر المحيرة في العالم الإسلامي لوجدنا أن المحرك لها واحد، ولكن عقلية تجزئ الأشياء تجعلنا لا نشعر بالقاسم المشترك فيما بينها.
إن هذا النزوع نحو تجزئة مشكلة الحياة إلى ذرة ذرة، وهذا العجز عن التعميم ليس من خواص الفكر المسلم كما يحاول أن يؤكده المستشرق الإنكليزي «جب» ( بل هو طراز للعقل الإنساني بعامة عندما يقصر عن بلوغ درجة معينة من النضج، وإن التراث الثقافي الخطير الذي خلفته الحضارة الإسلامية يظل شاهدا على ما كان يتصف به الفكر الإسلامي في عصوره الذهبية بالإحساس «بالقانون» وهو يستلزم القدرة على التركيب، وأصول الفقه الإسلامي أكبر دليل على ذلك ) [58].
التعالم والحرفية في الثقافة:
عانت مجتمعاتنا في عصور الضعف مشكلة (الأمية) والجهل ولكنها عندما حاولت النهوض أصيبت بمرض مستعص وهو (التعالم) أو الحرفية في التعلم وحمل اللافتات العلمية ( وإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول، فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليصيّره ضميرا فعّالاً، بل ليجعله آلة للعيش، وسلماً يصعد به إلى «الوظيفة»، وهكذا يصبح العلم عملة زائفة غير قابلة للصرف، وإن هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق، فالجاهل هنا لا يقوّم الأشياء بمعانيها، ولا يفهم الكلمات بمراميها، وإنما بحسب حروفها، وكلمة «لا» تساوي عنده «نعم» لو احتمل أن حروف الكلمتين متساوية.
وكلام هذا المتعالم ليس «كتهتهة» الصبي فيها براءة وإنما «تهتهة» يتمثل فيها شيخوخة وداء عضال، فهو الصبي المزمن ) [59].
لقد تحولت اللافتات العلمية زينة تتصدر المجالس، وألقاباً للتفاخر ذلك أن نزعة المديح والألقاب قد أسرتنا منذ عهود الانحطاط، فألقاب مؤلف أي كتاب لابد أن تملأ نصف الصفحة الأولى على الأقل، فهو العالم العلامة والحبر الفهامة...
ونظرة إلى الصحف الآن التي تعيش على المدح تكفى لنعلم كم نعيش تحت أسر الكلمات الطنانة التي ليس لها معنى، وإنما هو الغرام الأحمق بمجرد الكلام، (وفى هذا ضرر كبير على كيان الأمة لأنها تفقد حاسة تقدير الأمور على وجهها الصحيح ) [60] ، ويصبح المثل الأعلى من هو أقدر على الكلام ولو لم يكن له أي دور اجتماعي ( وقضية الجهل لا تعالج بمجرد وضع البرامج التعليمية، بل يجب أن يكون أولاً عملية تصفية نفسية، وبكلمة واحدة أن يكون التعليم بناء الشخصية الجديدة ) [61].
هذه نماذج لبعض الأمراض التي تعيق النهضة كما يراها مالك بن نبي، ولم نتعهد الاستقصاء، وقد يقال هنا: كيف لا يذكر أصل الداء وهو بعد الناس عن فهم العقيدة الإسلامية الصافية، عن فهم التوحيد كما جاءت به الرسل عليهم السلام، وللجواب على هذا نقول: إن مالك بن نبي كمفكر يهتم بشؤون النهضة والإصلاح ويشخص الأمراض الاجتماعية التي أصابت العالم الإسلامي والتي تعيقه عن النهوض، فقد يكون المسلم صاحب فهم سليم ولكن فيه هذه الأمراض، فهو يعالج هنا كالطبيب المتخصص.
2 -كان مالك بفطرته يعلم أن الرجوع إلى منهج خير القرون هو الصواب، ولذلك انتقد منهج المدرسة الإصلاحية في إحيائها ( لعلم الكلام ) يقول منتقداً الشيخ محمد عبده الذي ( ظن كما ظن فيما بعد الدكتور محمد إقبال أن من الضروري إصلاح علم الكلام بوضع فلسفة جديدة حتى يمكن تغيير النفس، بيد أن كلمة (علم الكلام) ستصبح قدراً مسلطاً على حركة الإصلاح الذي حاد بها جزئيا عن الطريق ) [62].
( وعلم الكلام يمجد الجدال ويشوه المشكلة الإسلامية، ويفسد طبيعتها، حيث يغير المبدأ السلفي في عقول المصلحين أنفسهم ) [63].
 3- إن مالكًا كغيره من المفكرين وكثير من المسلمين يظنون أن العقيدة هي الإيمان بالله ولا يفرقون بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فقد يؤمن الإنسان بوجود الله، ولكنه يعرض عن عبادته والخضوع لشرعه، والرسل دعت الأمم لعبادة الله وحده، يوضح تصوره هذا قوله: ( والمسلم - حتى ما بعد الموحدين - لم يتخل مطلقا عن عقيدته، فلقد كان مؤمنا، ولكن عقيدته تجردت عن فاعليتها، وإن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه ) [64].
 إن ضعفه في العلوم الشرعية جعله لا يتبين أهمية فهم التوحيد فهما صحيحاً، وأن الخلط في هذا الموضوع هو أس البلاء.
كان تشخيص أمراض العالم الإسلامي عند مالك بن نبي مقدمة للبحث عن العلاج، أو للبحث عن أسس النهضة، وكيف تبدأ ؟ ومن أين تبدأ ؟ إن بلداً مثل اليابان بدأ نهضته في منتصف القرن التاسع عشر [65] وهي نفس الفترة التي بدأ الحديث فيها عن النهضة في العالم الإسلامي، فلماذا كان هذا البطء في (الإقلاع)؟.
السبب برأى مالك بن نبي هو عدم وجود منهج واضح للإصلاح ولا نظرية محددة للأهداف والوسائل وتخطيط للمراحل.
( فإذا حللت جهود المصلح الإسلامي وجدنا فيها حسن النية، ولكنا لانجد فيها رائحة منهج ) [66] ( وليس هناك تحليل منهجي للمرض وليس إلا أن عرف المريض مرضه فاشتد في الجري نحو الصيدلي -أي صيدلي- يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام ) [67] ( وواقعنا الآن إما فكرة لا تتحقق أو عمل لا يتصل بجهد فكري )[68] .
لا شك أن هذا الكلام حول (المنهج) صحيح ودقيق، فليس هناك دراسات عميقة وتحليلية لأمراض المسلمين، وما هي الحلول والمقترحات وما هو المهم والأهم، وكل الدراسات تأخذ جانباً من الجوانب تركز عليه والحل الأحادي هو الغالب، وأعمال كثير من المؤلفين كانت تبريراً ودفاعاً أمام الهجوم الغربي الاستشراقي على الإسلام [69] ، وليست أعمالاً فيها تخطيط للحاضر والمستقبل، غابت المؤتمرات التي تخرج بنتائج فعلية واقعية وكثرت تلك التي توصي بوصايا لا تخرج عن دائرة الورق التي كتبت عليه.
والذين كتبوا في أوائل النهضة كتابات جيدة مثل الشيخ رشيد رضا لم يستفد منها كثيراً ولم تنقح ويؤخذ الايجابي منها، ويبنى عليه، وكذلك الذين جاءوا من بعده لم يكن هناك خطة علمية لدراسة أقوالهم وآرائهم، وكأنما كل من يأتي يريد البدء من الصفر، بل نستطيع القول: إن كثيراً من الأخطاء التي وقعت سواء في مجال الدعوة أو غيرها انما كانت بسبب غياب المنهج أو عدم الالتزام بمنهج.
وإذا كنا لا نملك الوضوح من الناحية النظرية فضلاً عن وجود منهج تطبيقي عملي فهذا لا يعني عدم وجود المنهج، فالقرآن الكريم والسنة أوجدا المناخ المناسب لأن يستنبط العلماء منهج أهل السنة في النظر والاستدلال وطرق الحياة التي يريدها القرآن [70] ، فعندما يقول سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء:36] نجد الصحابة يفهمون هذا التوجيه ويلتزمون به، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا يعلم معنى كلمة [ وَأباً ] من آية {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } [عبس:31] فلا يتكلف الجواب ولا يحاول التعالم، بل يرى أنه من التكلف معرفة كل شيء، وأبو بكر –رضي الله عنه- يقوم بعمل علمي طبقاً لمنهج، عندما أعطى تعليمات مشددة لزيد بن ثابت، الذي كلفه بجمع القرآن، وكذلك عثمان بن عفان يشكل لجنة لجمع الناس على مصحف واحد [71].
وفهم الكتاب والسنة هو الذي جعل الإمام مالك والأوزاعي وأمثالهما يكرهون الجدل والخصومات في الدين ويركزون على العمل، وقد وضح هذا المنهج بشكل نظري في كتابات ابن تيمية وخاصة كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) وكان بالإمكان بناء نهضة علمية عملية لو أخذ المسلمون بهذا المنهج، ولكنهم مع الأسف غرقوا في الجدل وعلم الكلام فأبعدوا عن مجالات القيادة.
والجدل أسهل من البحث والاستقراء والخروج بنتائج في شتى مجالات العلوم.
وإذا كان للمنهج هذه الأهمية ( فإن نجاحه مرتبط بتناول المشكلة من جانبيها معاً (الاستعمار والقابلية للاستعمار)، فإذا نظرنا إلى جانب دون الآخر فقد غامرنا برؤية مشكلة مزيفة ) [72].
لذلك وقبل أن ننتقل إلى موضوع (إقلاع) العالم الإسلامي باتجاه بناء حضارة لابد أن نعرض وجهة نظر مالك بن نبي في الاستعمار الذي هو الجانب الخارجي من المشكلة، أو الجانب السلبي لنكون على وعي تام بما يدبر لإعاقة النهضة الإسلامية.
الاستعمار والصراع الفكري:
إن عرض مشكلة الاستعمار يبدو أكثر أهمية إذا علمنا أنه ركز هجومه على العالم الإسلامي، بينما كان أقل شراسة ولؤماً مع الشعوب الأخرى، وحاول إجهاض أي عمل إسلامي مثمر، واستخدم أخبث الوسائل ومنها الوسائل الفكرية.
ومالك بن نبي وإن كان ممن لا يعلقون أخطاء وتقصير المسلمين على شجب (الاستعمار) وحده بل يهتم بالعوامل الداخلية، ويرى أنها الأساس في البحث والتحليل، إلا أنه خبير بخفايا هذا الاستعمار ومواقفه من قضايا المسلمين، لذلك جاءت ملاحظاته وتعليقاته على هذا الجانب فيها عمق ومعاناة، فقد قرأ الكثير وعانى الكثير من استعمار فرنسا للجزائر، وهو يرى أننا إذا أردنا أن نتقصى الحركة الاستعمارية من أصولها فلا بد أن ننظر إليها كعلماء اجتماع لا كرجال سياسة [73] ، فظاهرة الاستعمار من طبيعة الرجل الأوربي، فكلما وقع اتصال بين الأوربي وغير الأوربي خارج إطار أوربا فهناك (موقف استعماري) [74] بينما نجد في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية أن رحلات ابن بطوطة وأبو الفداء والمسعودي لم تثر شهيتهم للاستعمار.
 ورحلات مثل هذه تثير شهية الأوربي، إن تحليل (منوني) الكاتب المتخصص بنفسية الاستعمار، يقول: «إن الأوربي يحب عالم دون بشر» ولو قال منوني إن الأوربي يحب عالم دون شهود على جريمته لكان هو الصواب [75].
وحتى بعض الأفراد الغربيين الذين يشاركون في المعركة ضد الاستعمار إنما يشاركون مادامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع الصراع الفكري، فالرجل المستعمَر لا يحق له الدخول في الميدان الفكري [76].
وفي ميدان الصراع الفكرى وخاصة مع الشباب المسلم الذي يدرس في الغرب نرى الاستعمار يستخدم بخبث منطق الفعالية وخلاصته: (بما أننا نحن المسيطرون ونحن الأقوى إذن فأفكارنا صحيحة).
( ويعتبر هذا اللبس المفروش في أعماق نفسية هذا الشباب هو النواة التي تدور حولها جميع دسائس الصراع الفكرى ومناوراته ) [77].
وقد يرفع الاستعمار أمام أعين المستعمرين شعاراً صحيحاً وهو يعلم أن المستعمرَ سيرفضه لأن الذي رفعه عدو، وبهذا يكون قد صرفه عن عمل إيجابي قد يفكر فيه في المستقبل.
يروي مالك بن نبي تجربة من تجاربه فيقول: «انعقد في باريس مؤتمر العمال الجزائريين بأوربا، وبهذه المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر توزيع كتيب لصاحب هذا العرض تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم، ولكن أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يفتهم أن يسدوا الطريق على الأفكار المعروضة، ولذا وجهت الدعوة إلى السيدة الألمانية التي كتبت «شمس الله تشرق على الغرب» وفيه مدح وتمجيد للحضارة الإسلامية، وتقدمت السيدة وقدمت كتابها للمؤتمر، فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات إلى أبهة وأمجاد الماضي الخلاب» [78].
ومن وسائله الماكرة، التي لا يزال يتقن استعمالها رميه للمسلم بشتى الاتهامات، بل يحاول الإيحاء بأن المسلم منبوذ القرن العشرين، وفي هذه الحالة يصبح سلوك المسلم ردود أفعال، وترفع عنده توتر طاقات الدفاع حتى يكون في حالة توتر شاذة، ويعيش إما مُتهِماً أو مُتَهماً، وفي هذه الظروف فإن مختبرات الاستعمار تصرف كل إمكانيات المسلم إلى معارك وهمية، يُسمع فيها قعقعة السلاح ودوي الحرب ولكنها معارك مع أشباح، والمسلم يظن أنه انتصر ويرتاح نفسياً، والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك الوهمية كتلك التي خاضها الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو، والمشكلة ليست في الدفاع عن الإسلام ولكن في تعليم المسلمين كيفية الدفاع عن أنفسهم[79].
لقد تدخل الاستعمار في كل شيء حتى لا يترك فرصة لأي بعث إسلامي، فكانت الإدارة الفرنسية في الجزائر هي التي تعين المفتي والإمام لا طبقاً لمشيئة جماعة المسلمين بل تبعاً لهوى المستعمرين، وبذلك تجمع في يدها أنفذ وسائل الإفساد، فاختيار رجل يؤم الناس في المسجد لا يكون بناء على تميزه بضمير حي أو علم بأصول العقيدة، بل يراعى في ذلك ما يقدمه للإدارة من خدمات، حتى كأنه (جاويش) صلاة، ولا شك أن هذا التحكم في شعائر الدين مما يقض مضاجع أصحاب العقائد من المؤمنين لما يرون من أحداث غاية في الفساد: إمام جاسوس، ومفت فاسد، وقاض مرتش، وغاية الاستعمار أن يجعل من الإسلام صورة عجيبة، وبذلك يكدس العقبات والعوائق على طريق النهضة الإسلامية)[80].
دور الاستشراق:
كان للمستشرقين دور بارز في محاولة تشويه وتزييف التاريخ الإسلامي والطعن في الإسلام نفسه، ولكن مالك بن نبي يركز على ناحية معينة في إنتاجهم كان لها أثر نفسي سيء في أذهان المسلمين.
فبعض المستشرقين خلطوا في كلامهم بين المدح للإسلام وبين وضع السم في الدسم، هذا المدح جعل بعض المسلمين يستسلمون لنزعة الفخر والعيش مخدرين على أمجاد الماضي، وكل من أراد الدفاع عن الإسلام استشهد بكلام لأحد المستشرقين، ( وهكذا يتبين لنا أن الإنتاج الاستشراقي بكلا نوعيه ( المادحون والمفندون ) كان شراً على المجتمع  الإسلامي ) [81] ( وعندما يعلن الاستشراق أنه لا نصيب للعرب في تشييد صرح  العلوم، ربما يؤدى بنا هذا الموقف المتطرف إلى تلافيه بسطحية نشاهد أثرها في إنتاج بعض المفسرين مثل طنطاوي جوهري ) [82]  وهو التفسير الذي حول القرآن إلى مادة للعلوم، والقرآن يوجد المناخ العقلي والنفسي للروح العلمية وليس هو كتاب جغرافيا أو فلك أو أحياء..  وأخيراً لابد أن نعلم أن المكر السيئ يحيط بأهله ( فالاستعمار الذي يهلك المستعمَرين مادياً يهلك أصحابه أخلاقياً، وذلك ما يشهد به تاريخ أسبانيا منذ اكتشاف أمريكا ) [83]
(إن الأمم الاستعمارية على الرغم من إدراكها لأخطار الاستعمار، تعمى عن هذه الأخطار كأن هنالك قدراً محتوماً يقضي على يقظتها ووعيها ) [84].
  ويجب أن نعلم أيضاً أنه رغم كل هذه العوائق، استطاع المسلم التفلت من الأنشوطة التي أراد الاستعمار عقدها حول عنقه، فما زالت فطرته وإسلامه يعطيانه القوة والدافع لتلمس الطريق الصحيح.
 ما هي نقطة البدء؟
الإقلاع:
الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه المسلم هو نقطة البدء، هذا الإيمان الذي يعطيه قوة فوق قوته، واحتمالاً فوق احتماله، فيتغلب على المصاعب التي تعترضه، ويتحول هذا الإيمان إلى عاطفة قوية جارفة ( فالروح وحدها هي التي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير الجاذبية الأرضية) [85] (فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، ويفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان، فالإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية [86] والمسلم الذي يصل إلى درجة ( التوتر الروحي )  يشعر بالسعادة الغامرة عندما يبني أول مسجد في المدينة ويحمل (لَبنِتَيْن) بدلاً عن واحدة ) وفي هذه الحالة الروحية صبر بلال –رضي الله عنه- ولم تستطع قوة في الأرض أن تخفض إصبعه وهو يقول: ( أحد، أحد ) [87].
هذا الإيمان يصنع المعجزات، عندما تختفي الأنانيات ويشترك الجميع عن طواعية في بناء حضارة، وفي المجتمع الإسلامي الأول كان المنافقون وحدهم يتخلفون عن أي عمل فيه تعب أو نصب، وكل الكتب والمحاضرات والخطب لا تكفي لإنشاء أمة لا ترتفع إيمانياً وأخلاقياً إلى درجة عالية، كما جاء في الحديث عن جندب بن عبد الله قال: «تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً»[88] .
والقرآن الكريم وضع ضمير المسلم بين حدين هما: الوعد والوعيد، ومعنى ذلك أنه قد وضعه في أنسب الظروف وهذان الحدان ينطبقان على مفهوم الآيتين الكريمتين: 
أ- { فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ }.
ب- { إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ}.
  وبين هذين الحدين تقف القوة الروحية متناسبة مع الجهد الفعال الذي يبذله مجتمع طبقاً لأوامر رسالة [89].
يقول الدكتور (الكسس كاريل) معبراً عن هذه الحقيقة: ( فالأمل والإيمان والحمية تؤثر في الجسم تأثير البخار في العجلة المحركة ) [90] ( وإذا نجحت إحدى الأفكار في تغيير سلوك البشر فذلك لأنها تنطوي على عناصر عاطفية إلى جانب العناصر المنطقية، إن الإيمان هو الذي يدفع الإنسان إلى العمل وليس العقل، والذكاء يكتفي بإنارة الطريق ولكنه لا يدفعنا إلى الأمام ) [91].
هذه الطاقة الإيمانية جعلت الفرد المسلم في عصر النبوة يقسم ثروته مع أخيه الذي هاجر إليه، فالمؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار هي أول عمل تاريخي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، ولولا قوة شبكة العلاقات الاجتماعية لما استطاع المجتمع الإسلامي الإقلاع باتجاه حضارة، وفي حالة تمزق هذه العلاقات قد توجد العوالم الثلاثة (الأفكار، والأشخاص، والأشياء) ولكنها لا تغني شيئاً، وقد يكون هناك مسلمون متحمسون وهناك أفكار ولكن الشبكة ليست قوية.
إن قصة المؤاخاة ليست خيالية، ولا هي أقرب للخيال، فالإسلام دين واقعي، وليس صعباً أن يحقق المسلمون شيئاً من هذه (المؤاخاة)، والآن توجد (إخوة  إسلامية) خطابية وعظية ولكن لا يوجد (مؤاخاة) عملية فعلية، من هنا المنطلق،  ومن هنا البداية.
الإقلاع باتجاه حضارة:
 التوتر الروحي، أو الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه الإنسان، والاندفاع فيه والحماس له حتى يأخذ عليه مجامع نفسه ويملك عليه قلبه، هو بداية الإقلاع عند مالك بن نبي كما ذكرنا في نهاية المقال السابق، فلكي نبني حضارة، أو نعيد دورة الحضارة لابد أن نصل إلى هذا المستوى من الاندفاع في تطبيق الإسلام...يجب أن تعود شبكة العلاقات الاجتماعية لتربط العوالم الثلاثة (الأشخاص، والأفكار، والأشياء) والمقصود بشبكة العلاقات هو القدرة على التعاون والتنسيق بين هذه العوالم الثلاثة واستخدام الأفكار والأشياء في محلها -المطلوب منها، والأخلاق العالية التي في ظلها يستطيع المجتمع إنتاج حضارته، والمؤاخاة الحقيقية هي إحدى الدعائم الرئيسية للإقلاع، فالطاقة الروحية التي دفعت سعد بن عبادة لأن يقول: ( يا رسول الله خذ من أموالنا ما شئت، وما أخذته منها أحب إلينا مما تركت ) هي التي جعلت الصحابة يحفرون الخندق حول المدينة بأدوات بسيطة، وبأيام قليلة، وهي التي كانت وراء اعتراف المرأة الغامدية، وهي تعلم أن عقوبة اعترافها هو الرجم بالحجارة، وعندما تاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فرح المجتمع الإسلامي بأسره، فهو مجتمع متماسك وشبكة العلاقات فيه قوية.
هذه الطاقة ضرورية للبدء، لأن المسلم الآن قد لا يؤثر بالوسط المحيط به بقدر ما يتأثر هو بهذا الوسط [92] .
في المجتمع الإسلامي الأول كانت شبكة العلاقات الاجتماعية على أعلى المستويات، وعندما أفل نجم هذا المجتمع في القرون المتأخرة كان مجتمعاً مليئاً بالأفكار (الكتب والمكتبات) ومليئاً بالأشياء، ولكنها لم تغن شيئاً لأن شبكة العلاقات كانت قد تمزقت وأصبح عالم الأشخاص عاجزاً عن أي نشاط مشترك، وهذا هو الذي أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها». فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» [93].
كيف نعيد الفاعلية للمسلم ؟ كيف نؤلف بين العوالم الثلاثة ( الأشخاص  والأفكار والأشياء) بانسجام وتوازن ؟ كيف نعالج أكبر مرض يصيب العلاقات الاجتماعية ألا وهو مرض حب الذات أو تضخم (الأنا) عند الفرد ؟.
لا تعود الفاعلية للمسلم إلا بعودة ذلك الاندفاع في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، ووضع طاقات الفرد في أحسن حالاتها، وفي أقصى توترها، وهذا معنى قوله تعالى: { خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [مريم:12]، وأحسن حالاتها أن توضع الطاقات بين حَدَّي الوعد والوعيد، بين الخوف والرجاء، فلا يأس من روح الله، ولا أمن من مكر الله، وأن تتناسب مع التحدي المفروض عليها فلا هو أكبر منها فتشعر باليأس، ولا هو أصغر منها فتتساهل وتسترخي ولا تقوم بالجهد المطلوب.
جاء الإسلام فوضع طاقات العرب في موضعها المناسب، فالكرم والشجاعة في الجاهلية كانا للفخر والاعتزاز، فوضعهما الإسلام في سبيل مبدأ، في سبيل الله، فالبطولة أصبحت مبرراتها في عالم الآخرة ولم تعد تدور حول ( الأنا)[94].
إن المجتمع لا يتكون من (كومة) أفراد، بل بعلاقات معينة بين هؤلاء الأفراد، وإذا أخذنا نموذجا من عالم الحيوان فسنجد أنه كلما تعقدت المصلحة كلما كانت الفاعلية أكثر، هناك حيوان يعيش بمفرده، بعيدا عن نظام الأسرة، ونشاطه يسد فقط حاجات بيولوجية بسيطة، فإذا نظرنا بعد ذلك إلى حيوان يعيش في مستوى أعلى من هذا، فإننا نرى العش الذي يبنيه الطير يعطي صورة للنشاط الاجتماعي في مستوى أرقى، ولكنه دون مستوى الحيوان الذي يعيش في نظام أوسع نطاقاً من الأسرة كالنحل، فإنتاجه هنا يتسم بالفاعلية في صورتين: مادية ومعنوية، فمن الناحية الأولى نرى أن نشاط النحل ينتج أكثر من حاجات سربه، ومن الناحية المعنوية نرى أن هذا الإنتاج يفرض على خليته حياة منظمة خاضعة لقوانين معينة، نجد في هذا المجتمع البسيط ظاهرة تقسيم العمل، وقد تزيد مهامها على عشرة أنواع من العمل [95] .
إن الفرد في المجتمع الإسلامي، وبسبب ضعف العلاقات الاجتماعية لا تقدم له الضمانات والمبررات التي تجعله يقدم أقص طاقاته، وكيف يقدمها وهو يرى الأنانية والتنافس البغيض، وقلة التشجيع، والأهم من ذلك هو عدم وجود الخبرة الكافية في العلاقات والانعكاسات التي تنظم استخدام الطاقة الحيوية في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع [96]
إن الذي يخطط للنهوض بالمجتمع الإسلامي يجب أن يكون لديه أفكار. جد واضحة عن هذه الأمور، كما أن عليه أن يكون خالياً من العقد البيروقراطية التي تنتاب الموظف، ومن أخلاق المغرمين بتملق الرأي العام [97] فعملية بناء كيان اجتماعي ليس بالأمر السهل، لأن العقد النفسية كما يؤكد العالم الأمريكي «مورينو» هي في العلاقة بين الأفراد فيما بينهم وليس داخل الفرد كما يقول «فرويد» [98]
وكل علاقة فاسدة بين الأفراد. تولد فيما بينهم عقدا كفيلة بأن تحبط أعمالهم الجماعية [99] فالذين يستطيعون ربط العوالم الثلاثة في توافق واتزان هم الذين يستطيعون تحريك القوى جميعاً في حركة دائمة الصعود، وهذا بطبيعة الحال لا يأتي إلا عن صف وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه: { بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } [الصف:4][100] .
توجيه الثقافة:
في هذه المرحلة المهمة من البناء يرى مالك بن نبي أنه لابد من توجيه أمور ثلاثة:
1.           الثقافة.
2.           العمل.
3.           رأس المال.
فالانتقال من حالة الجمود إلى الحركة باتجاه حضارة لا يحتمل التجارب الفاشلة، والمسلم بسبب عقدة تخلفه يظن أن تخلفه يتمثل في نقص ما لديه من (أشياء) ولا يرده إلى الأفكار [101] بينما الحقيقة أن النشاط يصاب بالشلل عندما يدير ظهره للفكرة، كما أن الفكرة تصاب بالشلل إذا ما انحرفت عن النشاط، ونحن لا نستطيع بصفة عامة أن نعتبر عدد الكتب التي تخرجها المطبعة في عام دليلا على الصحة العقلية في بلد معين، فلا بد من برنامج لتوجيه الثقافة [102] .
يعرف مالك بن نبي فكرة «التوجيه» فيقول: ( قوة في الأساس وتوافق في السير، ووحدة في الهدف، فكم من طاقات وقوى لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف نكتلها، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها، حين زحمتها قوى أخرى فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية صالحة لأن تستخدم في كل وقت، والمهم هو أن ندبر هذا الجهاز الهائل في أحسن الظروف الزمنية [103]
توجيه الثقافة: الثقافة مصطلح حديث النشأة وهي مرادفة لكلمة (Culture) الإنكليزية، ويستخدمها كثير من الناس بمعنى (العلم) ولكن مدلولها أوسع من العلم، وقد عرفها مالك بن نبي بأنها ( مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه ) [104] فهي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، وهي المحيط الذي يعكس حضارة معينه، والتعلم جزء من الثقافة، وعندما يصبح الهدف هو الحصول على شهادات فنحن بإزاء مرض اسمه (التعالم) ونحن قد نجد رجلا يحمل شهادات عالية ولكن ليس عنده فعالية وقدرة على حل المشكلات، بينما نجد رجلا آخر مثله في بلد آخر عنده هذه القدرة بسبب الثقافة التي تلقاها منذ صغره، فالثقافة نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، هذه الثقافة كيف نوجهها ؟ كيف نركبها من أجزائها حتى تؤتي ثمارها ؟ الشرط الأول لتحقيق مشروع ثقافي هو الصلة بين الأشخاص، وهاهو القرآن يعطينا! فكرة عن أهمية هذه الصلة: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال:63] فأساس كل ثقافة هو بالضرورة (تركيب) و (تأليف) لعالم الأشخاص طبقا لمنهج تربوي، أي أننا نريد للثقافة أن تكون وظيفة لبناء جيل مسلم تقوم على أكتافه الحضارة الإسلامية ( فالتعليم الفرنسي في الجزائر لم يمنح الجيل الجزائري الفعالية لأن الثقافة لا تشكل على مقاعد الدراسة، ولكن ضمن مجموع الإطار الاجتماعي الثقافي الذي يحيط بالفرد، والمدرسة عامل مساعد من عوامل الثقافة، ولكننا نخطئ في تقدير وظيفتها عندما نعتقد أن في إمكانها أن تحل مشكلة الثقافة وحدها) [105].
العناصر اللازمة للثقافة:
في مجال توجيه الثقافة لابد من التحديد السلبي أو تصفية أسباب التدهور والانحطاط، ثم يأتي بعد ذلك التحديد الإيجابي، وإذا كانت عملية التصفية قد قام بها البعض أو أنه من السهل القيام بها، فإن التحديد الإيجابي لعوامل الثقافة هو المهم، والعناصر التي يؤكد عليها مالك بن نبي هي: 
1- عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية.
 2 - عنصر الجمال لتكوين الذوق العام.
 3 - منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام.
 4 - التقنية أو (الصناعة) حسب تعبير ابن خلدون.
 أولاً - توجيه الأخلاق:
ونعنى بالأخلاق: قوة التماسك اللازمة للأفراد، هذه القوة التي استطاعت بناء المجتمع الإسلامي الأول، حتى كان الرجل يعرض على أخيه المناصفة في كل شيء وبعض هذه الأخلاق كانت من أسباب بناء المدنية الغربية، والشباب اليوم ينظرون إلى هذه المدنية في يومها الحالي ويضربون صفحاً عن أمسها الغابر ينسون أنه لولا صلات اجتماعية خاصة ما قامت هذه الصناعات ولما قام هذا العلم، ونظرة إلى جامعة من جامعاتهم ترينا أن أساسها كان دينياً قامت به جمعية خيرية دينية، بل إن كلمة دين عندهم (Religion) تعني في أصلها اللاتيني الربط والجمع [106].
 ثانيا -المنطق العملي:
إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة أو العقل المجرد، فهذا متوفر فهي بلادنا، ولكن ينقصه منطق، العمل والحركة، كيف يصرف المسلم وقته ؟ كيف ينفق أمواله ؟ كيف يستغل علمه ؟ مع الأسف إن جزءاً كبيراً من حياتنا يذهب عبثا، فالمسلم أحيانا لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً، بل أكثر من ذلك، فهو أحيانا يبغض الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، ولننظر إلى الأم التي تربى ولدها فهي إما أن تبلده بمعاملة وحشية، وإما أن ترخي له العنان وتتميع معه، إن الوهن والسخف يطبعان منطق قولها [107].
 ثالثا: الذوق الجمالي:
إذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته، وهو شيء مطلوب فوق الضروريات والحاجيات، وعندما ذكر الله سبحانه وتعالى خلق النجوم وغاياتها ذكر منها (الزينة) { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } [الملك:5] وكذلك عندما ذكر خلق الحيوانات  {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [النحل:6] وقد ورد في الحديث:  «إن الله جميل يحب الجمال» وذلك في معرض رد الرسول -صلى الله عليه وسلم-  على الصحابي الذي سأله عن اللباس الحسن والنعل الحسن هل هذا من الكبر. فالذوق الرفيع من العناصر الإيجابية في الثقافة، فالتناسب والتناسق في الأشكال والأشياء يعطي للإنسان راحة نفسية، والمنظر القبيح المتنافر لا يوحي بأي خيال جميل، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أزهد الناس ولكنه كان ينفر من ألوان معينة، ويشجع الناس على النظافة والاهتمام بالمظهر الحسن وخاصة في المساجد وأيام الجمع والأعياد.
إن تربية الذوق الحسن في الأمة هو جزء من ثقافتها ومؤشر على درجة ثقافتها.
رابعاً: الصناعة أو (التقنية):
عرَّف ابن خلدون الصناعة بأنها: ملكة في أمر عملي فكري [108] وهذا تعريف دقيق لما يسمى الآن (التقنية) فهي تحتاج إلى العلم والممارسة اليدوية حتى ترسخ مع الزمن وتصبح (ملكة) كما عبر عنها ابن خلدون، وهذه الصناعة لا تكون إلا في مجتمع متحضر، لأن المجتمع البدائي يحتاج إلى أمور بسيطة لا تحتاج لتقنية، فوجودها يدل على درجة التحضر والعلم، فلابد أن يكون في المسلمين فئة تتقن هذه (الصناعة) وتبدع فيها مما يناسب الإسلام والحضارة الإسلامية، وتبتعد عن شرور سيطرة (الآلة) على الإنسان، وهذا يحتاج لمجلس للتوجيه الفني ليحل نظرياً وعملياً المشكلة الخطيرة للتربية المهنية تبعاً لحاجات البلاد [109].
وإن الإمكانيات في البلاد الإسلامية لتسمح بتكوين القيادات التي تشرف على طريقة تنفيذ هذه (التقنية) وأن تخضع لثقافة المسلم وذوقه المتميز.
هذه العناصر التي يرى الأستاذ مالك بن نبي أنها من مكونات الثقافة وأنها تحتاج لتوجيه معين لاشك أنها تصلح لكل مجموعة بشرية أو لكل أمة تبحث عن ثقافتها الخاصة، وكأن مالك استلهم هذا التحديد من علماء الاجتماع والحضارات في أوربا، وكان الأولى أن يذكر زيادة على هذا العناصر الخاصة بالثقافة الإسلامية، إن عنصر الأخلاق مثلاً أو الذوق الجمالي يتبعان عقيدة المسلم وتصوراته الخاصة، فهل يقال للمسلم يجب أن يكون عندك ذوق في الموسيقى أو النظر إلى فن التصوير ؟ ! لاشك أن للمسلم خصوصياته في هذا المجال.
 أهمية الاقتصاد:
لم يعد الاقتصاد في العصر الحديث من الأمور الثانوية، وما كان كذلك في القديم، ولكن العصر الحديث زاده أهمية وزادت مشاكله حدة بسبب التقارب الجغرافي، وظهور مذاهب الرأسمالية والاشتراكية التي جعلته من المحاور الرئيسية في حياتها، وبسبب جشع الغرب ومحاولته إبقاء دول العالم الثالث مستهلكة لإنتاجه ( فأوربا التي تكتلت في القرن الحادي عشر من أجل الزحف الصليبي وتكتلت في القرن التاسع عشر في الميثاق الاستعماري، تعود اليوم إلى تكتل جديد في صورة «السوق المشتركة» في الظاهر من أجل الصمود في وجه الاقتصاد الأمريكي والياباني وفي الواقع من أجل الزحف الاقتصادي على مناطق الحضور الأوربي سابقاً «العالم الثالث والإسلامي بوجه خاص» لترسي فيها دعائم وجود أوربي جديد بوسائل الاقتصاد ) [110].
وليس هذا موضع تفصيل نظرة الإسلام إلى الاقتصاد ولكن الذي لاشك فيه أن دولة أو أمة تعيش على فتات الموائد والإعانات من القمح والدقيق والقروض من البنك الدولي، كيف يتسنى لها الاستقلال السياسي، وكيف تبقى بعيدة عن ضغوط الشرق والغرب.
كان الطلب على الحاجات قليلاً في الماضي، ولم تقع الشعوب الإسلامية فريسة الاستهلاك، وبسبب التخطيط الاقتصادي الفاشل صار الفلاح ينتظر لقمة العيش من أمريكا، وقد كان في السابق مكتفياً هو وأسرته في مزرعته وأرضه (فالعالم الإسلامي يواجه اليوم «حالة إنقاذ» تفرض عليه أن يتخذ قرارات صارمة في المجال الاقتصادي ). [111]
ونحن لا نضخم من دور الاقتصاد، ولكن ألم يكن كبار الصحابة تجاراً ومزارعين، ولابد من إعمار الدنيا بالقدر الذي لا تنخرم فيه أمور الدين أو أمور  الآخرة، وكيف يكون المسلم عزيزاً إذا كان جل اعتماده على الكفار.
الاقتصاد اليوم أصبح علماً قائماً بذاته، والظروف الحالية تتطلب تخطيطاً اقتصادياً يناسب حاجات وموارد بلادنا، وإذا كان الغرب يسخر الاقتصاد للرفاهية والاستغلال، فلماذا لا يسخره المسلمون للاستقلال ونشر الدعوة والجهاد.
الإقلاع الاقتصادي:
ولأهمية هذا الموضوع كان السؤال المتبادر: كيف ينهض المسلمون اقتصادياً؟ وكيف يكون لهم اقتصاد مستقل؟ فالعالم من حولهم في سباق رهيب، المنتجون في الشمال على محور (واشنطن - طوكيو) يريدون بقاء العالم الآخر (محور: طنجة - جاكرتا) المحطة الرئيسية للاستهلاك، ( والمسلم في أول هذا القرن لاهو بالمنتج الذي يرعى حقه، ولا المستهلك الذي ترعى حاجته، لقد كان أداة عمل مستمر فقط، ولم يتكون لديه وعي اقتصادي ولا تجربة في عالم اقتصاد غريب عليه بكل مفاهيمه ). [112]
وعندما حاول العالم الإسلامي النهوض تعثرت خطواته كثيراً، وفشلت التجارب التي لم تأت عن دراسة لواقع المسلمين الثقافي، بل أخذت من الشرق أو الغرب كأنها «وصفات» جاهزة لتطبيقها في أرض غير أرضها، قامت صناعات قبل أن توفر الغذاء للعامل في المصنع، واستقدموا الخبير الألماني «شاخت» ليطبق نظرياته في أندونيسيا، ولكنه فشل لأن تجربته كانت مع الشعب الألماني وليس مع الشعب الأندونيسي.
ومن الناحية النظرية، وعندما يكتب المسلمون عن الاقتصاد يبدو تأثير النظريات الغربية، فهم يحاولون دائماً إثبات أنه يمكن أن تقوم بنوك دون ربا، واستثمار دون ربا فكأن قضية المال هي الأساس الأقوى في الاقتصاد، ولا يعرجون كثيراً على موضوع الإنسان الاجتماعي ( فالمعنى الاقتصادي لم يظفر في ضمير العالم الإسلامي بنفس النمو الذي ظفر به في الغرب ) [113] أو لا يعرجون على العمل وأهميته ( فالعمل وحده هو الذي يخط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي) [114] ( وعندما كان المسلمون الأول يشيدون مسجدهم الأول بالمدينة، كان هذا أول ساحة للعمل صنعت فيها الحضارة الإسلامية)[115]
وفي مجتمع ناشئ ( فإن كلمة أجر تفقد معناها، لأن العامل لا علاقة له بصاحب عمل ولكن بجماعة يشاطرها بؤسها ونعماها، فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عمل، وإزالة الأذى عن الطريق عمل، وغرس شجرة عمل، واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل...وهكذا ) [116]
توجيه رأس المال:
يفرق مالك بن نبي بين مصطلحي الثروة ورأس المال، فالأول يستخدمه الفرد في ميدانه الخاص مثل عقاره أو قطيعه أو ورشته ( فالثروة لا تسعى لغايتها كقوة مالية مستقلة، بينما رأس المال ينفصل عن صاحبه ويتسع مجاله ليخلق حركة ونشاطاً، ويوظف الأيدي أينما حل وحيثما ارتحل ) [117] فالثروة مال ساكن، ورأس المال مال متحرك، والمطلوب من المسلمين توجيه المال في خدمة الاقتصاد الإسلامي ( فالقضية ليست في تكديس الثروة ولكن في تحريك المال وتنشيطه، بتوجيه أموال الأمة البسيطة إلى رأس مال متحرك ينشط الفكر والعمل ) [118]
وقد نتج عن عدم توجيه (المال) أن ( زاد أغنياء المسلمين على فقرائهم في العطل برغم ما يملكون من ثروات، فكثير منهم لا يهتمون بتولي طفل مسلم لتربيته تربية علمية ) [119] ( والأموال تنفق في توافه الأشياء وتترك المشاريع ذات النفع العام كالمدارس والمستشفيات إنها مشكلة توجيه رأس المال، إنها مشكلة نفسية وليست مالية ) [120].
ومع هذه الدعوة إلى توجيه رأس المال إلا أن مالك يحذر الدول ( من اختيار مبدأ التنمية الرأسمالية لأنها تكون كما لو قررت مبدئياً أن تضع عملها من أجل النهوض الاقتصادي في سجن المؤسسات المالية العالمية ) [121] بل يرى أن  المشكلة ليست في المال ولكن في تعبئة الطاقات الاجتماعية، والرصيد الأساسي هو الإنسان، ( لو سمح لى أن ألخص وجهة نظر عبّرت عنها منذ ربع قرن لقلت أنه ليس من الضروري «ولا من الممكن» أن يكون لمجتمع فقير المليارات من الذهب كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا تستطيع الأيام أن تنقص من قيمته شيئاً، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان والتراب والوقت ) [122] ( إن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصنع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان، وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات ) [123].
وبمثل رأي مالك هذا قال ابن خلدون في مقدمته: ( الكسب هو قيمة الأعمال البشرية، والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان، وامتن به عليه في غير ما آية من كتابه {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [الجاثية:13] وسخر لكم الأنعام، ويد الإنسان مبسوطة على العالم ) [124]
الزراعة والصناعة:
إن ظروف العالم الإسلامي تقتضي عندما يريد النهضة الاقتصادية أن يبدأ بالزراعة، فهي الأساس، وهي التي تمده ببعض المواد الخام، وهي التي تحميه من الضغوط الاستعمارية، هذا هو رأي مالك بن نبي الذي يكرره كثيراً في كتبه، يقول:
( والأرض هي الوسيلة المأمونة - كما يقول اليوم الاقتصاديون الذين  يدرسون مشاكل العالم الثالث - لضمان «إقلاع» مجتمع ما من مرحلة أولية إلى مرحلة ثانوية ) [125] ( ولكي يصل الاقتصاد إلى مرحلة التصنيع فليس له ما يعتمد عليه سوى الزراعة من ناحية والمواد الأولية «الخام» من ناحية أخرى، وهذان هما ثديا الاقتصاد الإسلامي على العموم ) [126] .
وتجربة الجزائر هي أكبر مثال على ذلك حين اهتم بالصناعة وأهمل الزراعة، ووجد الشعب والعمال أن المواد الضرورية للغذاء غير موجودة.
لاشك أن وجهة نظر مالك بن نبي صحيحة بشكل عام، ولا أظنه يعني أنه لابد من استكمال الزراعة حتى نبدأ بالصناعة، ولكن الزراعة هي الأساس، وهذا شيء طبيعي بالنسبة للعالم الإسلامي، فضعفه في الزراعة ومحاولة الانتفاش أنه صناعي جعلته يستجدي أخيراً المواد الغذائية من الغرب.
لم يقدم مالك بن نبي هنا نظرية متكاملة في الاقتصاد، بل إشارات وخطوط عريضة فقط، بل نستطيع القول أنه بسط الأشياء أحياناً، وهي أكثر تعقيداً وخاصة في ظروفنا الحالية.
كما أنه وبسبب «السذاجة السياسية» وقع في غلطة كبيرة عندما ظن أن ما قام به قادة انقلاب (23) يوليو في مصر مما سمي بـ (الإصلاح الزراعي) سيكون خطوة كبيرة في طريق الإصلاح الاقتصادي، إن ما قام به هؤلاء لا يعدو أن يكون ارتجالاً وتشنجات نفسية ضد الإقطاع وليس نابعاً عن خطة مدروسة فضلاً عن أن تكون خطة إسلامية، وقد خرجت مصر بعد ذهابهم أضعف اقتصاداً مما كانت عليه يوم جاءوا، ولكن مالك الذي عاش في الغرب يفرح بأي خطوة يخطوها أهل المشرق مما يظن أنه من الإصلاح.
لم يعش مالك حتى يرى انهيار المجتمعات الاشتراكية، سواء في الشرق أو في البلاد العربية، وانهيار الاقتصاد المزيف، وطبعاً لا تغني الوصفات من الرأسمالية فالأمل هو في المجتمعات الإسلامية التي ( تعيد إلى عالم الاقتصاد  أخلاقياته، ويتلافى بذلك الانحرافات الإباحية التي تورطت فيها الرأسمالية، كما ينجو من ورطة الماركسية المادية التي سلبت الإنسان ما يميزه عن الآلات والأشياء ) [127] .
بعد الحلقة الأخيرة في قراءة فكر مالك بن نبي كانت النية متجهة للكتابة عن بعض أخطائه ضمن الكتابة عن المدرسة التي تأثرت به، وفي مكان آخر غير صفحات هذه المجلة، ولكن بعض القراء أشاروا وطلبوا أن تكون الكتابة عن مالك في المجلة حتى تتضح الصورة، وتظهر الإيجابيات والسلبيات كي تقع الفائدة المرجوة وتتجنب الأخطاء، واستجابة لهذا سأكتب عن الأخطاء ضمن المنهج الصحيح في الجرح والتعديل؛ وهو أنه إذا غلب على الرجل الخير فالأولى تقديم إيجابياته والتغاضي عن سلبياته أو ذكرها مجملة ما أمكن ذلك، وما أردت في المقالات السابقة إلا عرض خلاصة أفكاره عن أمراض العالم الإسلامي وشروط النهضة، وهي أفكار تستحق الدراسة والتأمل، ونتمنى أن يستفيد منه المسلمون في كل مكان.
فقد أصاب فيها المحز، ووضع الإصبع على الجرح، ورغم مرور سنين على طرحها، لكن مشكلة المسلمين لا زالت كما حللها وكتب عنها.
إن الأخطاء التي سنتكلم عنها ليست أخطاء عادية مما يقع لكل كاتب، فكان لابد من ذكرها والتنبيه عليها.
النظرة السطحية للأحداث والشخصيات: 
كان مالك بن نبي عميقاً في فهم غور الاستعمار وأساليبه الخفية للتسلط على العالم الإسلامي، وعميقاً في معالجة (القابلية للاستعمار) عند المسلمين، ولكنه في عالم الواقع والسياسة فيه سذاجة أو طفولة سياسية، وهذا ليس غريباً فقديماً تعجب الإمام ابن الجوزي من شخصية أبى حامد الغزالي، كيف يجمع بين الفقه والذكاء من جهة، وبين الصوفية وحكايات العجائب والخرافات من جهة أخرى.
أ - أعجب مالك بثورة 23 يوليو في مصر، ومدحها ووضع آماله فيها من ناحية الإصلاح الزراعي والصناعة، وإنشاء وزارة الثقافة والإرشاد، والحياد الإيجابي، وكل الدجل والشعارات التي أطلقها مهرج هذه الثورة.
فثورة يوليو (1952م) عند مالك ( من أهم الحوادث بالنسبة للصراع الفكري، وكان لهذا الحدث تأثير شرارة كهربائية انطلقت في وعي البلاد العربية والعالم الإسلامي ) [128] ( وكل عربي يعلم أن نظرة الرئيس جمال عبد الناصر خطت للنهضة العربية الاتجاه الصحيح الذي يحقق الشرط الأول للانسجام مع القانون العام..) [129].
كيف يكون هذا الزعيم بهذه الصفات ونحن لا نعلم أن هناك زعيماً آخر في العصر الحديث ترك بلاده خراباً مثل جمال عبد الناصر ؟ كيف لا يدري مالك بن نبي وهو من هو في فهم اللعبة الاستعمارية أن عبد الناصر كان ضمن (لعبة الأمم)، وأنهم ساعدوه على صنع هذه البطولة المزيفة، وحتى لو كانت هناك بعض الإصلاحات المادية - وهي لم تتحقق فعلاً - فأين الحديث عن الاستبداد السياسي وكرامة الشعب المسحوقة ؟ بل أين تطبيق الإسلام ؟.
2 - علق مالك بن نبي آمالاً كبيرة على مؤتمر باندونغ، واعتبره كتلة سلام للعالم، واعتبر هذا التنوع الذي يضم تسعاً وعشرين دولة، تضم تراثاً فكرياً متفاوتاً ( يمكن بطبيعة الحال أن يقدم العناصر اللازمة لبناء قاعدة متينة للسلام )[130].
هذه نظرته لهذا المؤتمر، والحقيقة أنه كان يحب التكتلات الكبيرة لمواجهة الغرب، وقد يكون معه بعض الحق في هذا، ولكن مثل هذا التكتل كان يحمل بذور فشله، وقضية الحياد التي يرفعها لم تكن صحيحة، فكل دولة منحازة، والهند التي كانت من أبرز أعضاء المؤتمر وتدعي السلام والروحانية كانت تحمل بين جوانحها الكره العميق للمسلمين، بل إن صورة الهند العداونية كانت من البديهيات عند الشباب المسلم في الستينات، ولم ينخدعوا بكلام الدبلوماسي الهندي ( ليس لدينا من الخشوع ما يكفينا ونحن ذاهبون إلى باندونغ ) [131] ، ويصدق مالك بن نبي أن نهرو حمل  رسالة اللاعنف التي سلمه إياها غاندي، ونهرو هذا يكتب في (المجلة العصرية) مقالتين ينكر فيهما على الجمعيات المسلمة الحركة ضد القاديانية ويؤيد جانب القاديانية ) [132]، وهند نهرو هي التي احتلت كشمير وأخذتها بالقوة، فأين السلم وأين الديمقراطية التي تدعيها ؟ وما الفرق بين الهند وباكستان في (القابلية للاستعمار).
وقد أدرك مالك أخيراً عدم جدوى أي محاولة تجمّع ليست عناصره  منسجمة [133] ، كما كان يلمح في آخر حياته بأن ثورة 23 يوليو لم تقم بالواجب، ولاشك أن الكبار من أمثال مالك بن نبي يتراجعون إذا عرفوا الحق.
 3 - كانت روسيا بعد الثورة الشيوعية تدعي أنها دولة صديقة للشعوب وللعالم الثالث، وأنها ليست دولة استعمارية، وقد صدّق مالك بن نبي هذه المقولة، يقول: ( فالمناخ الاستعماري الذي تكوّن في أوربا وأمريكا على حد سواء، وفي الاتحاد السوفييتي قبل الثورة أيضاً ) ولكن الحقيقة أن روسيا مستعمرة قبل الثورة وبعدها، ولم تتخل عن جشع الدول الكبرى، وهي وجه آخر للحضارة الغربية.
4 - نقد مالك الانتخابات السياسية التي تطالب بالحقوق فقط وتنسى الواجبات، وتعتمد أسلوب المظاهرات والحفلات، وهو محق في هذا، ولكنه شارك في هذه الوسائل، وساعد «مصالي الحاج» في قيام الحزب الوطني، مع أنه ينتقده هو وحزبه، ولكنه حب الحركة ثم يكتشف الأخطاء بعدئذ.
اللاعنف:
 أعجب مالك بن نبي بقصة (اللاعنف) عند غاندي، فهو يذكرها دائماً، بل يذكرها بخشوع، ويبني عليها أحلامه الفلسفية في السلام العالمي، واتجاه العالم نحو مناقشة قضاياه بالسلم والحوار والفكر، يقول عن منطقة جنوب شرقي آسيا: ( هي مجال إشعاع الفكر الإسلامي وفكرة اللاعنف، أي مجال إشعاع حضارتين: الحضارة الإسلامية والحضارة الهندوكية، الحضارتان اللتان تختزنان أكبر ذخيرة روسية للإنسان اليوم ) [134] .
ويحلق في الخيال والطوباوية عندما يقول: ( فكذلك رفات غاندي التي ذروها فإن الأيام ستجمعها في أعماق ضمير الإنسان من حيث سينطلق يوماً انتصار اللاعنف ونشيد السلم العالمي ). [135]
( هذا الرجل «غاندي» كان يتقمص إلى درجة بليغة الضمير الإنساني في القرن العشرين ). [136]
إن فكرة (السلم العالمي) بمعنى أن يحل السلام في العالم بشكل دائم، أو أن العالم يتجه نحو هذا الهدف، هذه الفكرة غير واقعية وغير شرعية، وهي فكرة خيالية محضة، فهي تنافي مبدأ الصراع الذي ذكره القرآن الكريم { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } [البقرة: 251] كما تنافي مبدأ الجهاد في الإسلام، وهي غير واقعية لأن من طبيعة البشر التغالب والعدوان إن لم يردعهم رادع، والدول الكبيرة القوية تأكل الضعيفة إن لم يكن عسكرياً فاقتصادياً.
والبشرية لن تبلغ رشدها في عمرها الثالث فتصبح الفكرة ذات قيمة قي حد ذاتها كما يتصور مالك بن نبي [137] ، بل إنها كثيراً ما تتردى من الناحية الإنسانية، والبشرية لا تبلغ رشدها إلا إذا حكمها الإسلام.
إن فكرة (اللاعنف) و (الإنسانية) من الأفكار الخطيرة التي بذرها مالك ووسعها بعدئذ تلامذته، وحاولوا اللف والدوران كثيراً حول مبدأ الجهاد الإسلامي.
الإنسانية والعالمية
وقريب من مبدأ (السلام العالمي) كان مالك يحلم بأن تتوحد الإنسانية في مجتمع عالمي، ويظن بأن البشرية تسير بهذا الاتجاه، ( فالعالم قد دخل إذن في مرحلة لا يمكن أن تحل فيها أغلبية مشكلاته إلا على أساس نظم الأفكار ) [138] ، (وحين اتجه العالم إلى إنشاء منظمة اليونسكو، كان يهدف إلى «تركيب» ثقافة  إنسانية على المدى البعيد ) [139] ( وما محكمة العدل في لاهاي والقانون الدولي،  والقانون البحري إلا مظاهر خاصة لذلك الاتجاه العام الذي لا يفتأ يمهد الطريق لتوحيد العالم ). [140]
هذا المفهوم للإنسانية مفهوم وهمي يراد به محو الشخصية الثقافية الحقيقية لكل مجتمع ولكل أمة، وإذا كان العالم قد تقارب وانتشرت الأفكار في كل مكان، وقد يستفيد المسلمون من ذلك في نشر دينهم الذي يملك عناصر التأثير والقوة، ولكن أن يتوحد العالم في مجتمع واحد فهذا مفهوم ذهني مجرد، وإذا كان هو نفسه شعر بأن فكرة الأفرو آسيوية صعبة التحقيق، ولذلك عاد وكتب عن (الكومنولث الإسلامي)؛ فكيف يظن أن العالم يسير نحو الوحدة؟!
ضعف ثقافته الشرعية
لم يتصل مالك بن نبي بعلماء عصره ليستفيد منهم، ورغم اعترافه بأهمية «جمعية العلماء» في الجزائر التي كان على رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس؛ إلا أن علاقته بها كانت فاترة ويعترف هو بعد ذلك أنه كان مخطئاً في هذا [141] ، ولذلك كانت دراسته للإسلام نابعة من قراءاته الشخصية وهي قليلة إذا قيست بقراءاته في الفكر الغربي، وهذا ما جعله يخطئ في أمور كثيرة سواء كانت في الفقه والأحكام أو في النظرة لبعض جوانب التاريخ الإسلامي، فمن رموز الثقافة عنده الفارابي، وابن سينا، وابن رشد [142].. ( والمجتمع الإسلامي في عصر الفارابي كان يخلق أفكاراً وفي عهد ابن رشد يبلغها إلى أوربا وبعد ابن خلدون لم يعد قادراً على الخلق ولا على التبليغ ). [143]
وفي العصر الحديث فإن من رموز الثقافة عنده جمال الدين الأفغاني، وهو موقظ الشرق، وهو رجل الفطرة... الخ. وإطلاقه هذا القول جزافاً يدل على ضعف ثقافته الشرعية.
وفي التاريخ يلمز كثيراً بنى أمية دون وضع الضوابط للإنصاف والتقويم الصحيح.
وبسبب عدم وضوح توحيد الألوهية ظن أنه من الممكن اتصال العالم الإسلامي بروحانية الهند (وليس بوسعنا أن نغض من قيمة الدور الذي يمكن أن يؤديه اتصال العالم الإسلامي بروحانية الهند) [144]
ولم يشر في كتبه إلى موضوع تحكيم الشريعة الإسلامية، وكان معجباً بدولة الوحدة عام (1958م) مع أنها لا تطبق شرع الله، وهناك أخطاء جزئية لا نريد التفصيل فيها ونعتقد أنه لو نبه عليها لتراجع.
وقبل أن ننهي هذه القراءة لفكر مالك بن نبي لا بد من التنبه لأمور: 
 أ - هذه السلبيات والأخطاء يجب أن لا تمنعنا من الاستفادة من الإيجابيات، فهذا المفكر خبير في نهضة المجتمعات وأمراض المسلم المعاصر.
وكأني أسمع بعض المسلمين يقولون: ما دامت هذه آراؤه فما الفائدة من قراءة كتبه؟ وهذا خطأ فادح منهم، فنحن نقرأ لأعداء الإسلام ونستفيد منهم؛ فكيف بمفكر كان يسعى - حسب جهده - لخير المسلمين، وإن أخطأ في مواضع.
2 - إن مالك بن نبي شخصية كبيرة، فهو يتراجع عن الخطأ إذا تبين له، لقد نصح «جمعية العلماء» في الجزائر بصدق وقال كلاماً دقيقاً في هذا ( لقد كان على الحركة الإسلامية أن تبقى متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية ) [145] (وبأي غنيمة أراد العلماء أن يرجعوا من هناك وهم يعلمون أن مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر ) [146] ، وهو يقصد سير العلماء في القافلة السياسية عام (1936م).
ويقول: ( فيما يخصني لقد بذلت شطراً من حياتي في سبيل الحركة  الإصلاحية، وشهدت في مناسبات مختلفة بالفضل لجمعية العلماء ) [147] ، ويتأسف  لأن الجمعية لم تدعه للمساهمة في شؤونها الإدارية، ومع ذلك فقد تراجع واعترف أن موقفه من الجمعية لم يكن طبيعياً بسبب نظرته الخاصة للشيخ ابن باديس.
  3 - رغم معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان إلا أن أمله في التغيير بقي معلقاً في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي للمسلمين ( فالعالم الإسلامي لا يستطيع أن يجد هداه خارج حدوده بل لا يمكنه في كل حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن لا يقطع علاقته بحضارة تمثل أحد التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم العلاقة معها ) [148] ، ( والمسلم لا يزال يحتفظ بالقيمة الخلقية، وهو ما ينقص الفكر الحديث، فالعالم الإسلامي لديه قدر كبير من الشباب الضروري لحمل مسؤولياته مادياً وروحياً ) [149].

  فهل يتحمل الشباب هذه المسؤوليات ؟ نرجو ذلك. [150]

 




[1] مجلة البيان ـ من العدد [‌ 14 ] صـ ‌21 (صفر 1409  ـ  أكتوبر 1988) وحتى العدد [‌ 23 ] صـ‌ 29 جمادى الأولى 1410  ـ  ديسمبر 1989
[2] مالك بن نبي: في مهب المعركة، تقديم محمود محمد شاكر، 3 .

[3] سيد قطب : معالم في الطريق، 117 .

[4] مالك بن نبي : مذكرات شاهد للقرن، 15 .
[5] مالك بن نبي : مذكرات شاهد للقرن، 131 .
[6] المصدر السابق 131
[7] المصدر السابق 174
[8] في مهب المعركة، 87 .
[9] شروط النهضة، 34 .
[10] في مهب المعركة، 33 .
[11] ميلاد مجتمع، 16 .
[12] مالك بن نبي : شروط النهضة / 2 59 .
[13] مالك بن نبي : مشكلة الأفكار / 217 .
[14] شروط النهضة / 23 .
[15] المصدر السابق / 106 .
[16] آفاق جزائرية / 38 .
[17] مشكلة الأفكار / 49 .
[18] آفاق جزائرية / 77 .
[19] فكرة الأفروآسيوية / 85 .

[20] شروط النهضة / 66 .
[21] شروط النهضة / 84 .
[22] شروط النهضة / 84 .

[23] انظر ما كُتب عن هذا الموضوع في العدد الأول من البيان / 116 12- ميلاد مجتمع / 88
[24] مشكلة الأفكار / 53 .
[25] فهمي جدعان : أسس التقدم عند مفكري الإسلام / 414 .

[26] الذي هو اختصاصه، فقد تخرج عام1935 مهندساً كهربائياً.
[27] مشكلة الأفكار / 43 .
[28] تأملات / 40 .
[29] مشكلة الأفكار / 214 .
[30] وجهة العالم الإسلامي / 114 .
[31] المصدر السابق / 77 .
[32] مشكلة الثقافة / 60 .
[33] وجهة العالم الإسلامي / 46 .
[34] آفاق جزائرية / 23 .
[35] مشكلة الأفكار / 43 .
[36] الصراع الفكري في البلاد المستعمرة / 27 .
[37] المصدر السابق / 27 .
[38] وجهة العالم الإسلامي / 80 .
[39] مشكلة الأفكار /102 .
[40] مشكلة الأفكار / 44 .
[41] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار /104.
[42] المصدر السابق /104.
[43] شروط النهضة /23.

[44] مشكلة الأفكار /106.
[45] تأملات /189.
[46] المصدر السابق /191.
[47] وجهة العالم الإسلامي /131.
[48] بين الرشاد والتيه /129.
[49] بين الرشاد والتيه /29.
[50] تأملات /140.
[51] شروط النهضة /48.
[52] معنى لحديث متفق عليه.
[53] الصراع الفكري /53.
[54] في مهب المعركة /154، 194.
[55] فكرة الأفرو آسيوية /79.
[56] المصدر السابق /80.
[57] الصراع الفكري /34.
[58] وجهة العالم الإسلامي /15.
[59] شروط النهضة /127.
[60] وجهة العالم الإسلامي /52.
[61] تأملات /191.
[62] وجه العالم الإسلامي /47.
[63] المصدر السابق /49.
[64] المصدر السابق /48.
[65] لاشك أن هذه نهضة صناعية، وليست نهضة حضارية بالمعنى الشامل، ولكن لو أن اليابانيين طالبوا بنقل مفاسد حضارة الغرب وسلبياتهم كما يطالب المستغربون عندنا لما نجحوا في بناء هذا المجد الاقتصادي، لقد حافظوا على نوع من التقاليد وأخلاق صارمة في التعامل حتى استطاعوا إقامة هذه النهضة.
[66] الأفرو آسيوية / 78.
[67] شروط النهضة /59.
[68] وجهة العالم الإسلامي /75.
[69] آفاق حد الرية / 46.
[70] إنتاج المستشرقين / 28.
[71] إنتاج المستشرقين / 33.
[72] وجهة العالم الإسلامي /86.
[73] وجهة العالم الإسلامي /85.
[74] في مهب المعركة / 16.
[75] في مهب المعركة / 28.
[76] الصراع الفكري في البلاد المستعمرة / 9.
[77] الصراع الفكري في البلاد المستعمرة / 9.
[78] مشكلة الأفكار / 140
[79] إنتاج المستشرقين / 16 .
[80] الصراع الفكري / 6768 .
[81] إنتاج المستشرقين / 25 .
[82] إنتاج المستشرقين / 25 .
[83] وجهة العالم الإسلامي / 113 .
[84] وجهة العالم الإسلامي / 113 .
[85] المصدر نفسه / 26 .
[86] المصدر السابق/27، وقد يستغرب القارئ ويقول : كيف نجمع بين كلامك في نهاية المقال السابق عن أن توحيد الإلهية لم يكن واضحاً تماماً عند مالك وبين كلامه عن الإيمان وأثره ومهاجمته لعلم الكلام ، وقد نبهني أحد الأصدقاء إلى أن ظاهر كلامه لا يدل على هذا ، مع قناعته بوجهة نظري، فذكرت له أنني استنتجت هذا الكلام من مجموع قراءاتي لكتبه ، كما أنه في النية كتابة مقال مستقل عن بعض أخطائه ومنها هذا الموضوع ، وسأوضح الدليل على ذلك إن شاء الله ، وقد يزول الإشكال إذا عرفنا أنه يتكلم هنا عن بناء الحضارات بشكل عام ، فالمسلم عنده طاقة روحية وغير المسلم عنده هذه الطاقة في بدء دورة الحضارة كما يذكر في أكثر كتبه.
[87] ميلاد مجتمع / 21 .
[88] صحيح سنن ابن ماجه ، بتحقيق الألباني 1 / 16 .
[89] ميلاد مجتمع / 21 .
[90] تأملات في سلوك الإنسان / 84 .
[91] المصدر نفسه / 139

[92] مالك بن نبي: ميلاد مجتمع/105.
[93] سنن أبي داود 4/111.
[94] تأملات/38.
[95] المصدر السابق/32.
[96] ميلاد مجتمع /72.
[97] المصدر السابق /107.
[98] المصدر السابق /41.
[99] ميلاد مجتمع/42.
[100] المصدر السابق/70.
[101] مشكلة الثقافة/71.
[102] المصدر السابق/67.
[103] شروط النهضة/117.
[104] مشكلة الثقافة/71.
[105] آفاق جزائرية/99.
[106] شروط النهضة/134.
[107] السابق/147.
[108] مقدمة ابن خلدون 2/935.
[109] شروط النهضة/149.
[110] مالك بن نبي: المسلم في عالم الاقتصاد / 102.
[111] المصدر السابق / 99.
[112] المسلم في عالم الاقتصاد / 7.
[113] المصدر السابق / 16.
[114] شروط النهضة / 162.
[115] المصدر السابق / 162.
[116] شروط النهضة / 163.
[117] المصدر السابق / 167.
[118] المصدر السابق / 172.
[119] وجهة العالم الإسلامي / 81.
[120] المصدر السابق / 83.
[121] المسلم في عالم الاقتصاد / 72.
[122] مالك بن نبي الرشاد والتيه / 60.
[123] المسلم في عالم الاقتصاد / 73.
[124] المقدمة 2 / 905.
[125] مشكلة الأفكار / 40.
[126] المسلم في عالم الاقتصاد / 24.

[127] المسلم في عالم الاقتصاد / 85.

[128] الصراع الفكري / 22.
[129] تأملات / 178.
[130] فكرة الأفرو آسيوية / 98.
[131] المصدر السابق / 7.
[132] مسعود الندوي: تاريخ الحركة الإسلامية في الهند / 220.
[133] فكرة كومنولث إسلامي / 7.
[134] في مهب المعركة / 87.
[135] المصدر السابق / 208.
[136] المصدر السابق / 207.
[137] إنتاج المستشرقين / 35.
[138] مشكلة الثقافة / 14.
[139] المصدر السابق / 96.
[140] وجهة العالم الإسلامي / 154.
[141] بقي له ملاحظات مهمة على جمعية العلماء سنذكرها في نهاية المقال.
[142] ثروة النهضة / 71.
[143] مشكلة الثقافة / 48.
[144] وجهة العالم الإسلامي / 170.
[145] شروط النهضة / 38.
[146] المصدر السابق / 34.
[147] في مهب المعركة / 190.
[148] وجهة العالم الإسلامي / 127.
[149] المصدر السابق / 157.
[150] من مصادر الترجمة أيضا «المفكر المسلم مالك بن نبي»      د. نورة خالد السعد